الملا محمد عمر زعيم طالبان .. جاذبية القيادة وغموض المواقف

ZgoWDrbs

ZgoWDrbs

بقلم: د ـ أحمد موفق زيدان

 

– بايعه 1500 زعيم قبيلة على لقب أمير المؤمنين مما منحه ثقلاً سياسياً مؤثراً على الساحة

– رفض الملا عمر كثيراً من المغريات لتسليم بن لادن أو الضغط عليه

كان ذلك في مارس -على ما أعتقد- من عام 1995 حين التقيت زعيم الحركة الملا محمد عمر – رحمه الله – لأجري معه لقاءاً صحفياً مُهِمّاً، كنت على يقين بأن لقاء الملاّ ليس بالأمر السهل يومها ولا بعدها، فهو لا يحب الأضواء ولا الإعلام ولكن نظراً لتغطيتي أحداث الجهاد الأفغاني لأكثر من عقد يومها، ونسجي لعلاقات مع قادة أفغان كثر فقد تمكنت من لقائه.

وصلت إلى قندهار معقل الحركة وأمضيت يومين أو ثلاثة مع (وكيل أحمد متوكل) مدير مكتب الملا محمد عمر صاحب الأخلاق الرفيعة والمباسطة والمزاح بعكس ما قد يُشاع عن الحركة وأتباعها، متوكل ترقّى بعدها لمنصب وزير الخارجية، ورافقنا خلال اليومين أيضاً الشيخ معصوم أفغاني مفتي الحركة، تصادف وجودي في قندهار عاصمة الدولة الأبدالية في القرن الثامن عشر مع إرغام حركة طالبان الصاعد نجمها لطائرة شحن روسية كانت تقل أسلحة وذخائر للتحالف الشمالي وقائده العسكري الأبرز أحمد شاه مسعود، فكنت في الزمان والمكان الصح حيث ضربت عصفورين بحجر واحد، لقاء الملا، ولقاء الرهائن فكانا سبقين صحفيين.

في حضرة أحمد شاه الأبدالي:

صباح يوم جميل من أيام مارس حيث السنة الأفغانية الجديدة، اصطحبني وكيل أحمد متوكل إلى دار الحكومة الأفغانية حيث قصر الملك أحمد شاه الأبدالي الذي حكم أفغانستان 1747م من هذا القصر، كان كل شيء في القصر يحكي عراقة وتاريخاً، عبق التاريخ في كل زاوية، يطغى على كل شيء، الحديقة الغنّاء التي تحولت على ما يبدو إلى حديقة مهجورة، فانتشر تحت ظلال أشجارها الوارفة مجاهدون ومقاتلون كثر، يتجاذبون أطراف الحديث عن الحركة الوليدة وانتشارها الصاروخي، إذ تمكنت حتى ذلك التاريخ من إخضاع معظم المناطق الجنوبية الغربية، كنت أتمشى مع وكيل أحمد متوكل الذي بدا كاتم سر الملا، وبينما كنا نتحدث عن طالبان ورأيها في الأحزاب الجهادية الأفغانية، إذا بي أرمق شاباً في أواسط الثلاثينيات يتمشى صوبنا حاملاً رداءً أو “البتو” الأفغاني، لم أفكر للحظة واحدة أنه الملا محمد عمر، فالبساطة والعفوية سمة الملا، الذي يفتقر إلى أي نوع من أنواع الحراسة، والبروتوكولات الذي اعتاد عليها قادة الأفغان المجاهدون الذين رافقناهم خلال سني الجهاد معدومة، فقدومه وهيئته يرسلان رسائل واضحة أن القوة والحضور والسلطة في الشخص لا في أدوات شكلية.

لم يبق بيني وبينه إلاّ خطوات، مصراً على التحديق بالأرض وليس النظر إلينا، التفت إلي وكيل أحمد متوكل ليبلغني أن أمامك (الملا محمد عمر مجاهد)، ويومها لم يكن قد أُطلق عليه أمير المؤمنين الذي خُلع عليه بعد أكثر من عام من اللقاء إثر السيطرة على كابول أولاً، ثم اجتماع لأكثر من 1500 عالم وشيخ قبيلة ليبايعوه على المنصب الجديد، سارعت إلى التسليم عليه والحديث إليه باللغة العربية، التي لا يفهمها، وأحياناً بالفارسية التي أتكلمها، أشار عليّ بالجلوس تحت شجرة ضخمة من أشجار قصر أحمد شاه الأبدالي الذي يعد أحد أجداده كونه ينتمي إلى نفس القبيلة، نثر الملا ” البتو” أو الرداء على الأرض لنجلس مقابل بعضنا، بينما ظل وكيل أحمد متوكل يجلس على بعد متر أو مترين، وبدأ الحوار الذي غطى ظروف ونشأة الحركة ورؤيته لما جرى ويجري وانقلابه على الجماعات الجهادية الأخرى.

بدا الملا محمد عمر المفتقر إلى الرؤية العالمية لما يجري حوله وهو ما وفره له لاحقاً تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن، لكن الملا أظهر بوضوح ماذا يريد محلياً، وأن الحل بإقامة الإمارة الإسلامية وتطهير أفغانستان من كل القوى المتحاربة التي سعت إلى تضييع كل سنوات الجهاد الأفغاني، لم يمض على هذا اللقاء سوى عام واحد حتى تمكنت الحركة من قرع أبواب كابول والقضاء على أكبر حزبين أفغانيين لم يتمكن الاتحاد السوفياتي في عزه ومجده من تركيعهما لعشر سنوات.

الملا عمر وأسامة بن لادن:

حتى ذلك الحين كان زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في السودان، وصل ابن لادن لاحقاً إلى جلال أباد شرقي أفغانستان بطائرة خاصة بعد أن تم طرده من السودان وذلك ضمن صفقة بينه وبين قادة جلال آباد المحليين، ومع وصوله إليها كانت حركة طالبان الأفغانية قد اقتربت من المدينة وسيطرت عليها، فلعب قادة جلال آباد المحليين من سازنور والمهندس محمود دوراً في تعريف أسامة بن لادن على الملا محمد عمر، ونشأت الكيمياء بينهما.

لم يكن ابن لادن على علاقة ومعرفة بالملا على الرغم من قتاله لسنوات طويلة في أفغانستان كون قتاله تركز في الشرق الأفغاني بينما الملا كان يقاتل في الغرب الأفغاني حيث فقد في إحدى المعارك عينه، واللافت أكثر أن ابن لادن القادم مما يُوصف بـ “المدرسة السلفية” السعودية لم يجد غضاضة في مبايعة زعيم الحركة الملا محمد عمر كأمير للمؤمنين المنحدر من المدرسة الحنفية الماتريدية.

لا زلت أذكر حين التقيت زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في جلسات مطولة استمرت لساعات طويلة في كابول وقندهار2000 ومطلع 2001 وهو يتحدث عن الملاّ باحترام وتقدير كبيرين، فقد كان ابن لادن يروي قصص رفض الملاّ لمغريات ضخمة عُرضت عليه مقابل بيعه ابن لادن أو طرده على الأقل، ولا زلت أذكر ما قاله أسامة بن لادن لي يومها من أن الملاّ حين طلب من أسامة بن لادن التخفيف من تصريحاته فقال له الأخير إذن لنُبقِ النساء والأولاد عندكم ونحن نرحل إلى أرض الله الواسعة، فما كان من الملاّ إلا أن قال له: إذن خذني معك، فبكى الطرفان، كل هذا يشير إلى مدى العلاقة القوية بينهما.

حدثني أحد القادة الطالبانيين المقربين من الملاّ كيف رفض عرضاً صينياً بتعبيد كل طرق أفغانستان بالمواصفات العالمية مقابل تسليمه بضع مئات من المسلمين التركستانيين الذين لجؤوا إليه، وهو الموقف الذي يُذكِّر بموقف السلطان عبد الحميد الثاني لهرتزل برفضه تسديد ديون الخلافة مقابل بيعهم فلسطين.

تظل أحجية ولغز أحداث الحادي عشر من سبتمبر حدثاً مهماً لفهم طبيعة العلاقة بين الملاّ وابن لادن، فوفقاً لمصدر أفغاني طالباني مطّلع فإن ابن لادن أبلغ الملاّ عمر بعمليات الحادي عشر من سبتمبر 2011 قبل حصولها، وأن الملاّ نصحه بأن لا يفعل ذلك، فالأولوية لتثبيت الإمارة والحكومة الإسلامية الأفغانية ومع إصرار ابن لادن على طلبه لم يجد الملاّ عمر بُداً من الموافقة لكنه لم يكن راضياً بالكامل عن العمليات.

بدايات كنهايات..غموض وألغاز:

لا شيء يشبه نهايته كبدايته، كحال العظماء ومن يدخلون التاريخ، ظهور الملا محمد عمر جسّد ذلك بأقوى صوره وتجلياته، فالحركة التي ظهرت بشكل غامض وتمكّنت -كما أسلفت- من قرع أبواب العاصمة في غضون سنتين من نشوئها، ثم تحدّت العالم كله بإصرارها على إيواء المطلوب الأول أمريكياً أسامة بن لادن، هي نفسها الحركة بقيادة الملا محمد عمر التي قاتلت تحالفاً دولياً ضمّ 50 دولة من أقوى دول الأرض، وبتعاون استخباراتي عالمي غير مسبوق، ومع هذا فشل العالم كله في تعقّب الملا، الذي لم يجزم حتى الآن بشكله أو بصورته، فقاتل بغموض شخصيته، ورحل عن الدنيا غامضاً تاركاً العالم يتجادل بشأنه كما تجادل وربما بشكل أقوى يوم حياته.

لم يكن الملا محمد عمر مولعاً بالإعلام وشاشاته كما هو حال ضيفه زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن الحريص على الظهور إعلامياً والتأثير على اتجاهات الرأي العام العربي والدولي، فقد كان يُنقل عن الملا محمد عمر حين يُطالب بتوضيح مسألة معينة: “نحن نصنع التاريخ وغيرنا يكتبه”، فقد كانت آخر رسالة صوتية للملا عمر عام 2006 وربما هي الرسالة الصوتية الوحيدة، وباقي الرسائل الواردة منه كانت مكتوبة فقط.

حين وُوجه الملا محمد عمر عقب رفضه تسليم أسامة بن لادن وقبوله التحدي الأمريكي بأن الرئيس الأمريكي جورج بوش وعد قواته بالنصر وبإلحاق الهزيمة بطالبان قال قولته المشهورة: “هناك وعد بوش ووعد الله وسنرى أي الوعدين أصدق، فنحن كمؤمنين نؤمن بوعد الله بنصر عباده المؤمنين”.

قاتل الملا عمر التحالف الدولي وأرغمه على الانسحاب من أفغانستان وقتل منه باعتراف المصادر الأمريكية 3490 جندياً أجنبياً، لكن مع هذا يرحل الملاّ عمر تاركاً إرثاً ثقيلاً، ربما قد يكون إرثاً شبيهاً بالإرث الذي خلّفه ضيفه أسامة بن لادن، إذ انقسمت القاعدة إلى تنظيم الدولة ومجموعات قاعدية هنا وهناك.

بالعودة إلى طبيعة الوفاة فهناك عدة روايات، الرواية الأولى والأكثر رواجاً هي وفاته في 19-7-2013 أي قبل عامين ونيف من الآن حين توفي في كراتشي ونقل جثمانه إلى داخل أفغانستان وتحديداً إلى ولاية زابل حيث دفن فيها، ويعزز ذلك ما ذكره مدير المخابرات المركزية الأمريكية السابق ليون بانيتا حين ذكر في يناير/2011 للرئيس الباكستاني آنئذ آصف علي زرداري أن لديهم معلومات عن مرض الملا وأنه يتم تطبيبه في مستشفى الأغا خاني بكراتشي، وهو ما نفاه الباكستانيون يومها، ويظهر أن الاستخبارات المركزية الأمريكية التقطت رسائل مكتوبة وهاتفية لقيادات طالبانية لاحقاً تؤكد الوفاة، أما المخابرات الأفغانية التي أعلنت الخبر فقد تحدثت أنه توفي قبل عامين في كراتشي، بينما المصادر الطالبانية الرسمية تقول الآن إن الوفاة حصلت أخيراً، وفي داخل أفغانستان ولم يخرج منها.

الملا عمر شكّل قوة جاذبة ومغناطيس توحيد لحركة طالبان أفغانستان حين قادها بالسر والعلن، ولسنوات ظل مجرد شبحه صُمغ الحركة، بيد أن رحيله لا بد أن يطلق تحديات حقيقية، فحسب الاتصالات اللاسلكية الملتقطة من مقاتلي طالبان في الداخل فإن المقاتلين في وضعية صعبة لا يعرفون من أين يتلقون أوامرهم، إذن فإن التحدي الأكبر أمام الحركة الآن هو بقاؤها بشكل موحد ومتماسك.

فشل أمني أمريكي كبير:

شكّل الإعلان عن وفاة الملا محمد عمر مفاجأة وفشلاً أمنياً كبيراً للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في العالم برمته، فكل هذه الأجهزة المتطورة التي كانت ترقب العالم وتتجسس على رؤسائه، لم تؤكد على مدى عامين ونصف تقريباً وفاة شخصية مثل الملا محمد عمر، وبالتالي فإن الإعلان هذا قد يكون صفعة باكستانية قوية للأمريكيين رداً على عدم مشاطرتهم إياهم عمليتهم في قتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن.

وقد نقلت الواشنطن بوست عن مليت بيرون مدير عمليات السي آي إيه في كل من أفغانستان وباكستان قوله: “إنه لأمر محير جداً أن تظل وفاته غامضة طوال هذه الفترة الطويلة الممتدة لأكثر من عامين بدون أي تأكيد، على الرغم من القدرات والإمكانيات الضخمة لأمريكا في المراقبة والتجسس”.

الهزة الأمنية الأمريكية قد يقابلها هزة إعلامية لمصداقية الحركة ومصداقية قيادتها أيضاً، فهل سيتعامل الإعلام بجدية مع تصريحات الناطق الرسمي الطالباني بعد اليوم وهو الذي كان حتى يوم إعلان المخابرات الأفغانية عن الوفاة يرفض ذلك ويعتبرها مؤامرات ودسائس، ليؤكد الإعلان بعد يوم واحد.