يتيم قندهار الفريد!

mountains

mountains

لم يكن لأحد أن يتصور أن الطفل القندهاري الصغير (محمد عمر) ذو الأعوام الخمسة الذي نشأ يتيماً منذ طفولته المبكرة، سيكون في يومٍ من الأيام بطلاً من أبطال الأمة الإسلامية النجباء، وحاكماً مسلماً أبيّاً لا تغريه دنياً فانية ولا يخيفه انتفاش باطل، وسيبكيه في يوم رحيله المسلمون قاطبة، صغيرهم وكبيرهم، عربيهم وأعجميهم، نساءهم ورجالهم، عالِمهم وجاهلهم.

اليتيم القندهاري ذاته، أنقذ بلاده من بحر فتنٍ كانت تغرق فيه، وانتشلها من دوامة القتل والنهب الذي ظلّت تعانيه بضع سنين، وكوّن -من اللاشيء- جيشاً من المجاهدين العالِمين العاملين المخلصين الذين عرفهم الناس فيما بعد باسم (الطالبان) -طلبة العلم الشرعي الحيّ المتحرك-. وماهي إلا شهورٌ قلائل حتى فرّ الظلام والظُلاّم، وأشرقت على أفغانستان تباشير العهد الذهبي الفريد في ظل حكم الطلبة بقيادة أميرهم اليتيم القندهاري. عاشت أفغانستان طوال فترة حكم يتيمها العظيم أروع وأجمل أيامها في جو يسود فيه العدل والأمن والعزة وتعلو فيه الشريعة الإسلامية ولا يعلوها أحداً كائناً من كان، وفي مظاهر إباء وسؤدد تجسّدت فيها معاني الإسلام حية من جديد بعد أن اندثرت لقرون من الزمان.

لم يكن إحياء فريضة الإعداد في سبيل الله، وإقامة شريعة الله في أرضه، وهدم الأصنام المعبودة من دون الله، وحماية المسلمين المظلومين، ونصرة قضاياهم العادلة، لم يكن ذلك هو كل ما تفرّد به الملا اليتيم في هذا الزمان، بل إن له من الفضائل والمكارم ما يعجز اللسان عن بيانه، وإن أردنا الإيجاز بكلمتين فيمكننا القول أنه مجدد العصر.

ولأن سنة الله تعالى ماضية في هذه الدنيا أن الباطل والحق يصطرعان أبداً، تكالبت شياطين الباطل من كل الأمم على هذا الحق الوليد الفتيّ، فبدأت في أفغانستان مرحلة جديدة من مراحل الصراع الأزلي المولد، سطر فيها المسلمون الأفغان وعلى رأسهم أميرهم اليتيم أسمى وأروع وأقدس معاني الفداء والتضحية والصبر. فكان الأمير النبيل -من تحت هدير طائرات المجرمين وأزيز مدافعهم- ينفث في قلوب شعبه وجنوده رُقية الإيمان وترياق الأمل، ويذكّرهم بوعد الله: النصر، النصر حين يعودون فاتحين أو النصر حين يرتقون خالدين، ينشر عبارات الطمأنينة والسكينة في نفوسهم وكأن الذي يقع عليهم لا يقع عليه، وكأن الذي يصيبهم لا يصيبه!!

أرادت أمريكا أن تشوّه صورته في أذهان المسلمين، فسخّرت لهذا إعلامها وأفراخها، وأراد الله غير ما أرادوا، فكانت محبّته في قلوب المسلمين -عربهم وعجمهم- تزداد طردياً بازدياد بهتان أعداء الله وكذبهم، محبّة تخطّت الحدود الجغرافية حتى وصلت إلى عمق أمريكا نفسها! حتى أن محبة الملا محمد عمر رحمه الله تكاد تكون المسألة الوحيدة التي اجتمعت عليها قلوب المسلمين في هذا الزمان بكافة مشاربهم وأطيافهم وتوجهاتهم وايديلوجياتهم، ولا أجد تفسيراً لمدى المكانة التي تملّكها الملا محمد عمر رحمه الله في قلوب الإخوة الأضداد –حتى في قلوب أولئك “الغير جهاديين” إن صحّ التعبير- سوى أن الله سبحان وتعالى أحبّه فألقى محبته في قلوب عباده –نحسبه ولا نزكيه على الله-.

لقد آخى أمير الفرسان الملا محمد عمر رحمه الله بين السيف والقلم، فكان مجاهداً عالماً، وأخاً شقيقاً للبطولة والشجاعة والمروءة، وتوأماً للزهد والعزة والتضحية والصبر والصمود. فكيف لا تبكي عيون مليار مسلم من كانت هذه شمائله وخصاله!؟ كيف لا يبكيه الأحياء والجمادات على حد سواء!؟ من ذا يلوم قندهار التي كان يحييها وقع أقدام هذا الفارس النبيل إن هي أسبلت دموعها أنهاراً وبحاراً تبكي غياب فتاها الهمام؟!، ومن ذا يلوم جبال الهندوكوش إن هي تلفّعت بالسواد حداداً على رحيل جنديها الأول؟! بل من ذا يلوم نهر جيحون إن هو شحّ بمائه حزناً لفقد أميره المحبوب؟!

جاء الأمير النبيل إلى الحياة الدنيا مجاهداً، وخرج منها مجاهداً، وعاش بين المجيء والخروج عيشة الأبطال الأفذاذ، والعلماء العاملين بعلمهم، والسلاطين المتّقين العادلين الزاهدين.

إننا لنخجل أن نرثي الأمير اليتيم؛ لأننا أموات وهو حيّ عند ربه يرزق إن شاء الله، ولأننا نعيش في حياة دنيّة ويعيشُ محلّقاً في رياض الجنة، القناديل له فيها موطناً، وأنّى لأموات أن يَرْثوا أحياءً؟

إن خيل الله التي ترجّل عنها أميرنا محمد عمر لهي عهده وأمانته عند إخوته وجنوده من بعده، فيا أيها الراثون الملا النبيل، ويا أيها الباكون فراقه، هلاّ شددتم لجام خيله بقوة واقتحمتم بها على عدو الله وعدوكم، وأكملتم بها مسيره الذي بدأ حتى تصلوا إلى ما كان يرجوا ويؤمّل؟

كفكف دموعك، ليس في عبراتك الحرّى ارتياحـي

هذي طريقـــي، فإن صدقت محبتي فاحمل سلاحي