رحل الملا عمر ثابت الأركان والجنان

rhlaomar

rhlaomar

حسب عدد كبير من التيارات والفصائل الجهادية على مستوی العالم، فقد عاش أمير المؤمنين الملا عمر رحمه الله حميداً ومات سعيداً بإذن الله وقد أبلى في الاسلام بلاءً حسناً؛ بل كان رجلاً بأمة فعلاً، أحبّه المسلمون قبل بني جلدته من الأفغان، ورأوا فيه معقد آمالهم الطيبة وطموحاتهم السامية وأحلامهم العذبة، واجتمع عليه العرب والعجم علی حد سواء من شتی العرقيات والبلاد، ومن مختلف المذاهب والتوجهات؛ فإنه كان مسلماً يخدم الإسلام كله قبل أن يكون أفغانياً يخدم الأفغان حصراً.

كان -رحمه الله- يحمل شخصية عالمية، ورؤية شمولية، وفكراً واسعاً، يتوجع لأوضاع المسلمين بأسرهم قبل أن يتألم لواقع الأفغان الأليم وأوضاعهم المأساوية ومصيرهم المجهول، الأمر الذي جعل بلده مأمنا للمطاردين والمشردين، حيث وجدوه خير أمير يؤمن أمنهم وسلامهم وطعامهم ويلبي سائر حاجاتهم. وعلی سبيل المثال لا الحصر، لمّا طالبه الكفر العالمي وأعوانه من الذقون المتأسلمة تسليم الشيخ أسامة بن لادن تقبله الله بحجة الإرهاب وبتهمة التطرف والراديكالية في مقابل دعم مالي وتهديد ووعيد في حال رفض التسليم، أبی إلا أن يكون مناصراً وحامياً لأخيه في موطن يحب نصرته وحمايته، ورفض كل المغريات بكل صراحة وتوكّل علی الله وحده وانتظر نصره، ولم يرغب -حتی آخر لحظة في حياته- في الإغراءات ولم يخف من التهديدات علی نفسه وأرضه وعرضه، وضحی بدولته لأجل رجل، وفضّل أن يخسر دولة علی أن يخسر مسلماً دعمه عسكرياً ولوجستياً ضد الشيوعية إبان الاحتلال السوفيیتي، وقال قولته المشهورة: (وعدتني أمريكا بالهزيمة ووعدني الله بالنصر فسأنتظر أي الوعدين ینجز)، علی النقيض من زعماء العالم الذين ربما يهون عليهم اغتيال آبائهم أو فلذات أكبادهم تنافساً علی المناصب الحكومية العليا فضلاً عن منصب رئاسة بلد. وهذا هوالفارق الذي يميز بين الديمقراطية العلمانية والدولة الإسلامية الواقعية.

ابتلي الملا عمرالمجاهد رحمه الله غير مرة في باختبارات عديدة، فقد طلبت منه الصين أن يسلم إليها المجاهدين التركمان الذين لجؤوا إلی بلاده وفي المقابل وعدت أنها ستقوم بتعبيد جميع الطرق على مستوی البلد ولكنه رفض رفضاً قاطعاً. وهكذا لابد أن تكون الدولة الاسلامية وفق المنظور الشرعي ويجب أن تتسم بشجاعة بالغة وحرص مكتمل في الذود عن المسلمين أينما كانوا ومهما كانت توجهاتهم وقومياتهم. فإن لم تتصف الدولة الإسلامية بهذه الميزة فليست جديرة بأن تسمی دولة إسلامية؛ فإن الدولة الإسلامية لها تاريخها وشأنها ومجدها ومبادئها وقيمها. ولايخفی علی الباحث في تاريخ الدولة الإسلامية منذ نشأتها حتی نهاية الخلافة العثمانية أن صرخة مسلمة أسيرة في معتقلات الكفار كانت سبباً في تحرير بلاد كثيرة.

عندما قرر الملا عمر تحطيم جميع التماثيل على مستوی البلد بما فيهما تمثالان ضخمان لبوذا، يعدّان من أقدم الآثار الأفغانية وأشهرها؛ لأن هذه التماثيل لا تتفق مع أحكام الإسلام وروح التوحيد وجوهره اقتداء بالنبي صلي الله عليه وسلم وتأسيا بسلفه الصالح طوال تاريخ الإسلام المديد، واجه هجمة إعلامية هائلة وأثار هذا القرار ردود فعل دولية غاضبة من العالم بشكل عام والبوذيين بشكل خاص، وبتعبير أدق، فقد قامت الدنيا وقعدت تنديداً بهذا القرار الحاسم، ولكنه أصر علی تنفيذ حكم الإسلام بشأن التماثيل -لله دره- ولم تأخذه في الله لومة لائم، ولم يرغب في إغراءات مغرين وقال قولته المشهورة: (إن كل الذي نفعله هو تحطيم التماثيل ومادام ذلك تنفيذاً لأوامر الله فنحن لا نخشی أحداً). لم يفتش عن مبرر بحجة المصلحة أو بالاحری البراغماتية العفنة التي لا تتماشی وروح الإسلام، البراغماتية التي تمارسها التيارات السياسية التي تزعم الحداثة والتنور بين الفينة والأخری إذا ما خيرت بين خيارين، خيار يصبّ في مصلحة مستقبل الإسلام وخيار يجر إليها النفعية المادية العاجلة. لم يسمح -رحمه الله- في أيما موطن أن يسقط الحق ضحية المصلحة الحزبية والنفعية المادية، بل كان مع الحق حيثما دار وليس مع المصلحة حيثما دارت.

لاشك في أن اتخاذ هذه القرارات والمواقف الحاسمة رغم معاداة الشرق والغرب وتكالب الذقون المتأسلمة يتطلب إيماناً قوياً وإخلاصاً نقيا وشجاعة مثالية وعزماً أكيداً وإرادة عليا.

الملا عمر هو الشخص الكارزمي الفريد الذي ظفر بإخماد نار الحروب الأهلية المجنونة الهدّامة التي اندلعت إثر سقوط دولة نجيب الله الشيوعية العميلة وقضت علی الأخضر واليابس، وكادت أن تضيع خلالها تضحيات الدماء والأشلاء والتهجير والتعذيب والاعتقالات التي قدمها الشعب الأفغاني خاصة والمهاجرون عامة في سبيل استعادة حاكمية الإسلام واستعادة الحرية المسلوبة، كادت كل تلك التضحيات أن تذهب أدراج الرياح.

نعم في ذلك الوقت الحساس والاستراتيجي استطاع -رحمه الله- أن يوحد الرايات والصفوف ويجعلها في اتجاه واحد وهدف موحد، وفي النهاية سيطر علی ٩٥% من ساحة البلاد وأعلن قيام إمارة إسلامية علی منهاج النبوة في البلد لأول مرة منذ اندثار الخلافة العثمانية، دولة لم يعرف تاريخ الإسلام الحديث تجربة مماثلة لها. واستطاع أن يؤمن استقراراً منقطع النظير علی مستوی البلد بفضل إقامة الحدود الشرعية إبان سيطرته علی البلد بيد أن الكفر العالمي وعلی رأسه الولايات المتحدة الأمريكية لم ولن يصبر علی قيام دولة تؤمن بالإسلام الواقعي وتحكم بما أنزل الله ولن يسمح لدولة إسلامية من شأنها أن تربي في ظلها رجالاً يغيّرون مجری التاريخ ويستعيدون المجد الإسلامي الفائت بل ويبنون التاريخ مجدداً. من هذا المنطلق شنّ الكفر بقيادة أمريكا هجوماً شرساً واسع النطاق ضد الإمارة الإسلامية بحجة أنها تدعم وتستقطب وتدرب الإرهابيين في البلاد. هكذا قدم الملا عمر أنموذجاً قيماً واقعياً من النظام الإسلامي بعدما طمست آثاره وانمحت معالمه وبات أسطورة، وأثبت أن الإسلام لم ولن يفقد قدرته وصلاحيته علی قيادة العالم وسيادة الناس، وأثبت أن الإسلام دين ودولة، وأنه ليس مجموعة من العبادات والتقاليد فحسب.

إنه رجل جمع بين المصداقية في السياسة والبطولة في المعارك، وجمع بين الفقر والزهد وبين الحكم والسلطنة، عاش فقيراً وأميراً في الوقت نفسه، ولم يتشوف يوماً إلی الدنيا البراقة الخلابة بل ترفعت عينه عن زخرفها ولم يطلب منها إلا مايقيم صلبه ويستر عورته.

بهذا الطراز الفريد من الحياة والسيرة والسلوك علّم الملا عمر رحمه الله أبناء الشعب الأفغاني وأبناء الأمة الإسلامية معنی الجهاد والفداء، معنی الصمود علی الموقف والثبات علی جادة الحق، معنی الإخلاص والإيمان، معنی التواضع والبساطة، معنی الإصرار والتمسك بالقيم الإسلامية، معنی الصبر والتوكل علی الله، حتی أثبت برحلته أنه من توكل علی الله ولم يستسلم أمام الكفر ولم يتنازل عن عقيدته ولم يتخلّ عن موقفه فقد نصره الله مهما رصد الاحتلال الصليبي الجوائز النقدية المقدّرة بعشرات الملايين من الدولارات للقبض عليه، لكنه عاش حراً ومات حراً رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.