نظرة إلی حیاة المولوي سید محمد الحقاني رحمه الله تعالی

بقلم: عبدالروف حكمت

بتاریخ 22/3/1437هـ الموافق 2/1/2016م توفي الشخصیة المعروفة في الإمارة الإسلامیة المولوي سید محمد الحقاني رحمه الله تعالی وتغمّده بواسع جنانه.

وُلد المولوي سید محمد الحقاني بن الحاج الملا لعل محمد في سنة 1972م في أسرة عُرفت بالتدین والعلم في قریة (محله جات) بمدیریة (دند) بالقرب من مدینة (قندهار). كان رحمه الله تعالی أكبر إخوته، وكان قد بدأ دراسة العلوم الدینیة وهو لازال صغیراً. وبعد الدراسة الابتدائیة علی أبیه في البيت ذهب للدراسة عند أحد العلماء الفضلاء في منطقته وهو المولوي (لال محمد) الذي كان جدّه لأمه، ودرس أولی كتب العلم الشرعي عنده. وقبل أن یسافر لطلب العلم إلی خارج البلد، درس عند أهم علماء مدینة (قندهار) ومنهم (المولوي حميدالله جان آخندزاده) و(المولوي عبيدالله جان الثاني) و(المولوي عبدالعلي) كما درس في (المدرسة الأحمدية) في مدينة قندهار. وبعد ذلك سافر لطلب العلم في أكبر مدن باكستان وهي مدینة (كراتشي) وواصل دراسته في مدارسها.

 

حبّه وشغفه بالعلم:

كان الشیخ سید محمد حقاني یقول عن نفسه أنه لم ینشغل بأيّ عمل أخر أثناء دراسته للعلم الشرعي. ویعترف أقرباؤه وزملاؤه أیضاً بجدّیته واجتهاده في طلب العلم.

وبعد أن أمضی الشیخ الحقاني بعض الزمن في طلب العلم في مدینة (كراتشي) انتقل منها إلی ولایة بلوشستان وواصل دراسته في مدرسة (شالدرة) المعروفة في مدینة (كویتا). وبعد دراسة سنتین فیها انقتل منها إلی مدرسة مشهورة أخری وهي مدرسة الجامعة الإسلامیة الأشرفیة وواصل فیها دراسته لسبع سنوات إلی أن أنهی فيها دراسته الشرعیة.

یقول الشیخ الملا محمد حسن آخند خال الشیخ الحقاني رحمه الله أنّ الأخیر كان له شغف عظیم بطلب العلم. كان یدرس في مدینة (كویتا) القریبة من بلده ولایة قندهار في أفغانستان إلا آنه كان یُمضي أكثر من سنة في المدرسة ولایذهب إلی بیته. وحین كان یذهب إلی بیته هناك أیضاً كان لا ینشغل إلا بطلب العلم ومدارسته.

و في عام 1994م حین تشكلت حركة طالبان في (قندهار) كان الشیخ الحقاني في نهایة سنة تخرجه، وكان یدرس كتب الصحاح في الأحادیث في المدرسة الأشرفیة.

وبتاریخ 1994م حین عُقد حفل تخریج العلماء الجدد الذين كان من بینهم الشیخ سید محمد الحقاني أیضاً كانت حركة الطالبان تتّجه بقواتها للاستیلاء علی مدینة قندهار بعد السیطرة علی مدیریات (پنجوایی) و(دند) و( بولدك)، وقد سیطروا بالفعل علی المدینة بعد یومین من تحركهم نحوها، وطردوا منها المجموعات المتحاربة.

كان الشیخ سید محمد الحقاني تخرّج في الأحادیث النبویة علی الشیخ أبي عبدالله نورحبیب السواتي، ووضع أكبر علماء (قندهار) شیخ الحدیث المولوي عبدالبصیر وعلماء آخرون عمامة التخرج علی رأسه كما هو العرف بین العلماء في هذا البلد.

 

استراحة لثلاثة أیام فقط:

یقول خال الشیخ سید محمد الحقاني الملا محمد حسن: (بعد حفل تخریج الشیخ سید محمد الحقاني توجّهنا من مدینة (كویتا) الباكستانیة إلی مدینة (قندهار) ولكنا وجدنا طریق (بولدك) مسدوداً أمامنا في الحدود بسبب هجوم طالبان علی مدینة (قندهار). وبعد أن سیطر الطالبان علی المدینة دخلنا نحن أیضا إلیها، واستراح الشیخ سید محمد في بیته لثلاثة أیام فقط، وفي الیوم الرابع التحق بحركة طالبان، وبدأ الخدمة في إطارها. استمر في الخدمة في إطار الإمارة الإسلامیة إلی أن وافته المنیة رحمه الله تعالی.

یقول خال الشیخ حكایة عن أمّ الشيخ رحمه الله تعالی: إنّ الأمنیة الكبیرة لأمة كانت أن یعیش معها ابنها في البیت لتقرّ عیناها برؤية ابنها البار الشریف الذي عاش بعیداً عنها لزمن طویل، إلا أنّ أمنیتها هذه لم تتحقق، لأنّ الشیخ كان قد أمضی حیاة طویلة في طلب العلم الشرعي بعیداً عن أهله، وبعد التخرج حین عاد إليهم لم یجلس عندهم إلا لثلاثة أیام فقط، وبعدها انشغل بالجهاد والخدمة في صف الحركة، وكان یُمضي فترات طویلة خارج البیت إلی أن توفي في هذا الطریق رحمة الله تعالی.

 

خدماته ومسؤولیاته في الإمارة الإسلامة:

كان الشیخ سید محمد الحقاني من السابقین في حركة طالبان. وكان رحمه الله تعالی قد بدأ عمله في الحركة بإدارة الثقافة والإعلام لولایة (قندهار). كانت رئاسة الثقافة والإعلام في قندهار قد تحولت إلی وكر من أوكار الفساد وتناول الحشیش والمخدرات الأخری، وكان قد اجتمع فیها المفسدون والمنحطّون خلقیاَ، ولكن حین تولی الشیخ سید محمد الحقاني إدارتها حوّلها مرّة أخری إلی مركز للعلم والثقافة. وحین سیطر الطالبان علی مدینة قندهار استطاعوا خلال أقل من شهر ونصف الشهر أن يبدأوا مرّة أخری إصدار جریدة (طلوع أفغان) الیومية، وهي كانت من الجرائد المعروفة في قندهار. وكذلك شغّلوا إذاعة قندهار، وأصدروا مجلّتي (خلافت) و(كندهار). وكان الشیخ سید محمد رحمه الله تعالی قد كتب عدّة مقالات لجریدة (طلوع أفغان) في الأیام الأولی من إعادة إصدارها. كان الشیخ الحقاني في البدایة نائب رئیس إدارة الثقافة والإعلام لولایة (قندهار) ثمّ ارتقی إلی رئاستها، وقد قدّم خدمات جلیلة أثناء خدمته في تلك الوظیفة.

وبعد السیطرة علی العاصمة كابل وإعلان الإمارة الإسلامیة عُین الشیخ سید محمد الحقاني نائبآ لإدارة مكتب الشؤون (وهي أعلی إدارة في القصر الرئاسي وصاحبها یكون بمرتبة وزیر) ثم عیّن رئیساً لهذه الإدارة.

و بما أنّ جمیع الإدارت في البلد كانت منهارة قبل سیطرة الطالبان علی الحكم، كان من أولویات الطالبان تفعیل الإدارات وإعادتها للعمل مرّة أخری، فكان للشیخ الحقاني اليد الطولی في هذا المجال.

یقول الشیخ الحقاني عن هذا العمل في إحدی مذكراته لتلك الفترة: (حین بدأت الولایات الشرقیة تخضع لحكم طالبان أرسلت الحركة لجنة خاصة برئاسة الملا نورالدین ترابي لتفعیل الإدارات في المناطق المفتوحة، فبدأت اللحنة تضع التشكیل الإدارة لكل ولایة، وتُفعل الإدارات، فعلی سبیل المثال بعد الذهاب إلی ولایة (ننجرهار) عیّنوا الشهید المولوي إحسان الله إحسان والیاً لتلك الولایة، كما عیّنوا رؤساء أیضا للإدارات في تلك الولایة. وحین تمت السیطرة علی العاصمة (كابل) عیّنت في البدایة من قبل أمیرالمؤمنین الملا محمد عمر لجنة مكونة من ستة أشخاص لتسییر الأمور، وبعد أیام تمت ترقیة رؤساء الإدارات العامة في ولایة قندهار إلی مرتبة الوزراء والقائمين بالأعمال لإدارة الحكومة الجدیدة في (كابل). وهكذا سُدّ فراغ الحكم بشكل عاجل في البلد وبدأت الجهود للإصلاح والتنمیة الإداریة في البلد).

ویكتب في مذكراته عن طبیعة العمل في مكتب إدارة الشؤون في القصر الرئاسي: (كانت إدارة مكتب الشؤون بمثابة مركز مراقبة لشؤون الإدارات الحكومیة، وكانت جمیع العرائض والاقتراحات والتقاریر من جمیع الوزارات والرئاسات، والولایات تُقدّم إلی مكتب رئاسة الوزراء، وإلی مكتب أمیر المؤمنین عن طریق مكتب إدارة الشؤون.

وبما أنّ رئیس إدارة الشؤون كان یُعتبرعضو مجلس الوزراء، كان یقوم بوظیفة مدیر مكتب رئاسة الوزراء أیضاً، وكانت هذه الآلیة في العمل سبباً في التنسیق والشفافیة في الشؤون الحكومیة.

كان مجلس الوزراء ینعقد كل یوم الأربعاء، وقبل انعقاد المجلس كانت المواضیع التي تتمّ مناقشتها تُعدّ في ورقة عمل من قِبَل رئاسة إدارة الشؤون وتبلّغ إلی الجهات ذات الصلة بها عن طریق هذه الإدارة).

و بعد العمل في مكتب إدارة الشؤون عُیّن الشیخ سید محمد الحقاني سفیراً للإمارة الإسلامیة في (إسلام آباد) إلا أنه أعید إلی وظیفته السابقة مرّة أخری بعد أقلّ من سنة من عمله سفیراً في إسلام آباد. وبما أنه كان قد اكتسب تجربة وكفاءة في هذه الوظیفة الهامة أُبقِيَ فیها إلی أن هجمت أمریكا علی أفغانستان.

و بعد احتلال العاصمة (كابل) والمدن الكبیرة الأخری من قبل أمريكا، وبعد انتقال تشكیلات المجاهدین إلی المناطق الریفیة، بدأ المجاهدون الجهاد المسلح ضدّ الغزاة المحتلین، واستمرّ الشیخ سید محمد الحقاني أیضاً في الخدمة الجهادیة في عدّة إدارات إلی أن تعیِّن في عام 2007م مساعداً للجنة الثقافة والإعلام، ونذر حیاته في هذه المجال أیضا بكل جدّیة وإخلاص، وبدأ یواصل جهاده الإعلامي ضدّ الهجوم الكفري، ووقف بكل صمود وتفان إلی جانب رئیس لجنة الثقافة والإعلام في مقاومة التیار الثقافي الغربي الجارف بإعداد جیل جدید من رجال الإعلام الجهادي .

وكما أنّ الهجوم العسكري الأمریكي ضدّ أفغانستان كان یقف وراءه تحالف عسكري واسع وقوي، فكذلك كان الهجوم الإعلامي والثقافي الغربي المصاحب للهجوم العسكري أیضا قویاً وشاملاً.

و إنّ العمل الإعلامي المقاوم من قبل المجاهدین ضدّ الهجوم الغربي أیضا كان قویاً من حیث الحجم والتأثیر ودقة التطبیق. وقد ألجأت قوة العمل الإعلامي للمجاهدین العدوّ للاعتراف بقوة عمل المجاهدين الإعلامي وسرعته وتأثیره القوي، وكان الشیخ سید محمد الحقاني أحد الجنود الباسلین في هذه المعركة إلی جانب إخوانه الكتاب والصحفیين المجاهدین، نسأل الله تعالی أن یُثیبه علی هذا العمل، وأن یتقبل منه خدماته.

سيد محمد الحقاني في ذاكرة إخوانه:

یقول المولوي أمیرخان متقي رفيق درب الشیخ الحقاني لزمن طویل عن شخصية الشيخ: (إنّ الشیخ سید محمد الحقاني كان عالماً حصیفاً، وكان یكنّ حبأ وإخلاصاً عظمین للجهاد وللإمارة الإسلامیة. كان رحمه الله تعالی یتمتّع بكفاءة عالیة في مجال العمل الإداري. وكان یحمل في قلبه حبّاً ووفاءً خالصین لإخوانه. كان صاحب مبادرة وابتكار في العمل، وكان یتألّم لآلام عامة الشعب ویفرح لفرحهم).

ویقول عن شخصیة الشیخ الحقاني المتحدث الرسمي للإمارة الإسلامیة الأستاذ ذبیح الله المجاهد: (كان الشیخ سید محمد الحقاني علماً في قول الحق وفي رؤیته وسمعه والعیش في حدوده. وكان حینما يتيقن من صحة طریقه وموقفه كان لا ینصرف عنه تحت أیة ظروف مهما كان الثمن. كان لا یُحابي أحداً في مقابلة الحق في فضّ المنازعات والمشاجرات، وكان لا یصرفه الحزن والغضب عن اتباع الحق. عاش حیاته للحق ومع الحق، وفي سبیل الذود عن الحق فاضت روحه إلی الله تعالی).

و یقول المحدث الآخر للإمارة الإسلامیة القاری محمد یوسف الأحمدي عن شخصیة الشیخ رحمه الله تعالی: (كان الشیخ یوصیني بشكل متكرّر بالتفاني والإخاء الصادق مع الإخوة في العمل. لأنّ الغِلّ في القلوب تجاه الإخوة یؤثّر سلباً علی سير العمل. كان یُسعده جوّ الأُخوّة والتفاني بین إخوانه. وكان یكره التظاهر والمراءآة والسمعة، وكان من العباد المخلصین والقریبین من الله تعالی).

ویتحدث الكاتب والمحلل السياسي المولوي عبدالرحیم ثاقب عن شخصیة الشیخ رحمه الله ویقول: (مع أنّ الشیخ سید محمد الحقاني كان قد عاش حیاته مدیراً لأعلی الإدارات السیاسیة والدبلوماسیة إلا أنه لم یكن يترفع علی إخوانه أبداً، بل كان یسعی دوماً أن یستفید من تجارب وعلم إخوانه في مجال العمل).

ویقول الكاتب الأفغاني المعروف الملاّ عتیق الله عزیزي عن شخصیة الشیخ الحقاني: (كنت عندما التقي بالشيخ سيد محمد الحقاني أيمع منه ما ينفعني كثیراً في العمل، ولم أسمع منه نسبة أيّ عمل إلی نفسه، بل كان یعتبر جمیع الإنجازات في العمل حصيلة جهود إخوانه).

ویتحدث أشقّاؤه وأفراد أسرته عن شخصیة الفقید ویقولون: (كان الشیخ فریداً في عاداته. كان بعیداً عن الحسد والضغائن، وكثیراً ما كان یحدث أن یحسده شخص أو یُحزنه، فبدل أن یستسمحه الجانب الآخر كان هو الذي يبادر ويذهب إلی بيت ذلك الشخص ليسدّ بذهابه طريق الشيطان إلی النفوس. فإن كان یتواری منه الجانب المقابل كان یجلس في بیته ویطلب من أهل بیته أن یحضروه له متذرّعاً أنّه یحتاجه في أمر ضروري. وبمثل هذا الخُلُق الحسن كان یطیّب النفوس ویضطر الآخرین لمصاحبته وموخاته.

كان الشیخ دوماً یوصي إخوانه بصلة الرحم وعدم قطعه. وكان یلحُّ علیهم بأن یُحسنوا إلی الأخرین احتساباً وتدیّنا وإن أساء إلیهم الآخرون. كان یهتمّ كثیراً بالأیتام وأسر الشهداء وكان یساعدهم قدر المستطاع.

وفاته:

توفي الشیخ سید محمد الحقاني یوم السبت بتاریخ 22/3/1437هـ حین كان في أحد أسفاره للقیام ببعض مهامه الجهادیة، وكانت وفاته إثر مرض عارض أثناء سفره رحمه الله تعالی. إنّا لله وإنا إلیه راجعون.

ترك الشیخ وراءه خمسة أشقّاء صالحین، وثمانیة أبناء تظهر في جمیعهم أثار الصلاح. وجمیعهم یدرسون العلوم الشرعیة رعاهم الله تعالی.

انتشر خبر وفاته في وسائل النشر بشكل واسع، وكتب كثیر من الناس عن مآثره ومناقبه، كما أرسلوا تعازیهم إلی أهله. وقد أصدرت قیادة الإمارة الإسلامیة أیضا بیاناً رسمیاً عزّت فیه أسرة الشیخ وقد جاء في البيان: (…تعزي قیادة الإمارة الإسلامیة والشوری القیادي ولجنة الثقافة والإعلام نيابة عن جميع منسوبي الإمارة الإسلامية أسرة الشيخ في وفاة متوفاهم رحمه الله تعالی).

نسأل الله تعالی أن یتقبل خدمات الشیخ، وأن یأجره على عباداته وعلى جمیع جهوده وخدماته الجلیلة في سبیل إقامة النظام الإسلامي، وأن یمنّ علی أهله وأسرته بالصبر والسلوان، وأن یخلفهم بخیر منه. آمین یارب العالمین.