شهداؤنا الأبطال: القائد العظيم، الشيخ المجاهد، قاهر السوفييت والصليب: الشيخ المفتي محمد أعظم رحمه الله

بقلم: سعد الله البلوشي

انتظرتُ برهةً من الزمن علّ أحد الإخوة يكتب ويذكّرنا بل ويمتعنا من بطولات قائدٍ همام قلّ نظيره في الآونة الأخيرة، وهو مع قيادته الرشيدة وحنكته العسكرية الرفيعة يتمتع بعلم غزير، حاز قصب السبق حتى نال أعلى درجته ومنزلته، وهو فوق ذلك كله عالم عامل ذو أخلاق حسنة جميلة لطيفة قلما اجتمعت هذه الصفات في شخصٍ واحد أو على الأقل ما رأيت أنا شخصية جامعة لهذه الأوصاف النبيلة في وقت واحد، ولكي لايطول انتظاركم فسأخبركم عنه ألا وهو الشيخ النّبيل، والأستاذ الكريم، والقائد الفذّ، الحبيب المحبّب، المفتي محمد أعظم رحمه الله تعالى.

وُلد هذا العالم الفذّ العبقري عام 1394هـ.ق ليعيش أربع عقود نافعة ماتعة، جرّب فيها الحلو والمرّ. وله من الذكريات الماتعة ما لم يكن عند الشيخ الكُنتيّ، والطاعن في السنّ.

هاجرت عائلته كبقية الأسَر المضطهدة إلى ديار الغربة، ولكن من فضل الله سبحانه وتعالى عليه أن أرشده إلى طريق العلم، فنهل من ينابيعه العذبة، وارتشف من معينه الصافي حتى فاق أقرانه بفرط ذكائه. وأثناء ذلك لم يكن غافلاً عمّا يدور حوله، ومن سنّ مبكرة تألّم على احتلال بلاده بأيدي السوفييت، فدخل غمار المعارك ضدّ السوفييت والشوعيين الملحدين وهو يافع له من العمر 17 عاماً.

دخل المعارك الضارية الدائرة بين جنود الرحمن وجنود الشيطان في ولاية خوست بجانب إخوانه المجاهدين من العرب والعجم، ولما أنه كان يتقن اللغة العربية، تمتع كثيراً من صحبتهم، فحفظ نوادر المصريين والمغربيين والشاميين والسعوديين وغيرهم، حتى أنه كان يحفظها. وقبل استشهاده بسنوات، رأيته يتكلم في برافشة مع أخ مغربيٍ قدم حديثاً، فتعجب ذلك الأخ قائلاً: هل كنت في المغرب؟

فابتسم وقال: لا، بل كنت مع الإخوة المغربيين في خوست عندما كنا نجاهد ونقاتل الشيوعيين.

وهكذا كلما تقدّم شيئاً في الميدان، هذّب نفسه أيضاً بالعلوم الشرعية حتى تخرّج ووضع على رأسه عمامة الشرف. فلم يدّخر هذه العلوم بين ضلوعه ولم يبخل بها؛ بل نشرها بين أبناء المسلمين وفق استطاعته، حتى إذا ما بغى الكفار الأنذال على ديار الإسلام، وأرادوا أن يقضوا على الإمارة الإسلامية الوحيدة التي تحكم بما أنزل الله، وتطبّق شرائع الله سبحانه وتعالى وأحكامه، ولا ترضى بشريعة الغاب وتعبيد البشر من دون الله، أغلق كتبه وودّع تلاميذه، ولم يرَ في قعوده للتدريس عذراً مبرراً أمام الله سبحانه وتعالى يوم القيامة إذا قعد ولزم بيته وكتبه وتلاميذه ولم ينفر للجهاد في سبيل الله.

فدخل كابول، وبعد مدة انسحب مجاهدوا الإمارة الإسلامية، فانسحب الشيخ أيضاً، وفي تلك الأثناء سقط أسيراً بيد مجموعة من العملاء والخونة، ولِما أنه كان يتقن الكاراتيه والملاكمة، ضرب بعض الجنود وأفلت من بين أيديهم وهرب. وهكذا أنجاه الله تعالى من شرهم والوقوع في أسرهم وأذاهم.

وبعد الانسحاب بدأ يعلّم أبناء المسلمين في إحدى المدارس الدينية. ثم بدأ دوراً جديداً في حياته، دوراً مرموقاً لا يأتي إلا من قبل العمالقة والرجال الطيبين، وهذا الدور دور الاختبار والامتحان، وقلّما يُوفق المرء على ذلك إلا من ألهمه الله سبحانه التوفيق ومنّ عليه.

حكى الشيخ بنفسه لي هذه القصة عندما كنتُ معه، فالحمدلله سبحانه وتعالى صاحبته فترة طويلة وسأحكي شيئاً من خَبَري معه في السطور الآتية إن شاء الله.

قال الشيخ: بعد انسحاب مجاهدي الإمارة الإسلامية، نزل عليّ بعض الضيوف العرب مع عائلتهم، فكان لي بيتٌ يحويني وعائلتي فحسب، فأكرمتهم. ومع الصباح كنتُ أذهب للتدريس حتى العصر لأنفق ما أكسب على أسرتي وأسرة الضيوف النازلة عليّ، فانتظرنا كي نجد طريقاً إلى وزيرستان أو إلى الأراضي الجهادية الأخرى، ولكن سُدّت الطرق بوجوههم. فقلتُ لا بأس، إلى أن يأتي دوركم للذهاب، ابقوا معي، وسأبني لكم بيتاً بجانب بيتي لتعيشوا معي، وهكذا وفقني الله سبحانه وتعالى أن أبني لهم بيتاً، فكانوا يسكنون معنا نحو سنة أو سنوات حتى أنّ أبناء الضيف تعلموا وأتقنوا لغتنا لطول مكثهم عندنا، إلى أن فُتح الطريق أمامهم، فهاجروا إلى أرض الجهاد.

قل لي بربك أليس هذا مشروع ضخم، وتضحية كريمة مباركة؟ حيث لم يكن أحد يجترئ آنذاك على أن يقرّب منه مجاهداً لشدّة الظروف وانتشار الجواسيس في كل مكان يبحثون عن المجاهدين، لاسيما العرب كي يسلموهم إلى الأمريكان أو ليدلّوهم عليهم ببعض الدولارات.

ولكنّ هذا الشيخ الكريم كان يدرّس مقابل أجرة قليلة ليُضيّف بها ضيفه الكريم وأسرته برهة من الزمن ريثما يمنّ الله عليهم بالهجرة إلى أرض الجهاد ثانية.

ذهب الضيوف بأمن وأمان ووصلوا إلى أرض الجهاد. ومن جانب آخر انطلقت شرارة الجهاد من ولاية هلمند بيد أمير المجاهدين، مجدّد الجهاد في قوم البلوش، الشيخ سيف الله محمود رحمه الله، فلم يرَ الشيخ لقعوده مبرراً يعذره أمام الله سبحانه وتعالى، فنزل أرض الجهاد ولكنه برز هذه المرة كقائد عسكري بعدما صقلته السنون وأنضجته تجارب الجهاد. وكان أول ما التقيت به في رمضان عام 1427هـ.ق في الخطّ الأول بمديرية “هزارجفت” الجميلة بولاية هلمند، معقل الجهاد والأبطال، حيث كان أمير مجموعتنا. فکنا في الخط في صفٍ والعدوّ في صف آخر، على بُعد قرابة خمسمائة إلی ستمائة متر، وکنا نطلق عليهم ويطلقون علينا.

وفي یوم من الأیام، رأیت أبا دجانة المکي رحمه الله تعالی یقول للقائد المفتي أعظم –رحمه الله– اذهب بي لمشاهدة ذلك القائد الذي قُتِل قبل أیام وانتفخ جسده ونتن، ولم یقدر الأعداء على إخراجه من الساحة فبقي لدی خنادق المجاهدین.

فسألني القائد المفتي محمد أعظم رحمه الله: هل تصاحبنا؟

قلت: أجل.

فمشینا نحوه، ولما کنا في وسط الطریق، قال لنا الأمیر: اقطفوا بعض الأزهار. فتعجبت لما قاله الأمیر، فسألته: لِم؟

قال: إذا لم تضع زهراً طیباً علی أنفك، فلن تستطيع الاقتراب منه؛ لأنه قد نتن وانتفخ وعفن وعکر الفضاء.

یا سبحان الله! إلی أي حد وصلوا من الذل والخزي وحضیض الاحتقار في الدنیا قبل الآخرة، في سبيل دولارات بخسة معدودة؟

فقطفنا بعض الأزهار العطِرة، وتقدمنا نحوه، وکان الجسد داخل بطانیة، لکننا لم نستطع أن نقترب منه، فابتعدنا منه أمتاراً، مع أن الأزهار کانت علی أنوفنا والله، ومع ذلك کان الجسد متعفناً کریهاً مزعجاً قد أزعجنا.

أجل؛ فسبحان الله العظیم الذي أکرم أجساد عباده المجاهدین الصالحین وعبّقها بریح من العنبر والعود؛ كي لا یتبدل الذین من بعدهم من المجاهدین المنتظرین، الذین یرنون إلی الشهادة ویعشقونها، ولیعضّوا على هدفهم أکثر فأکثر.

وسبحان الذي أنتن نعوش أعدائه وعفّنها؛ عظةً لمن یتعظ وعبرةً لمن یعتبر.

كان الشيخ -رحمه الله- يحبه الجميع، وكلٌ يتمنى أن يكون معه؛ لأنه كان رحيماً ودوداً، يحب المجاهدين ويبث الحب والوداد فيما بينهم. والإخوة العرب كانوا يبجّلونه ويكرمونه ويحبونه، حتى إنني كنت معهم فكانوا يبشرون الإخوة العرب الجدد بالشيخ، فيقولون: سيأتيكم عن قريب شيخ بطل وقائد عبقري يذهب بالإخوة إلى ميادين القتال.

وذات مرة سألوه عن اسم أكبر أبنائه فقال: هو عابد، فكانوا ينادونه بكنيته (أبا عابد).

وكان الشيخ ينتقل من معركة إلى معركة ومن عملية إلى عملية حتى قبض عليه الأمريكان، فنقلوه إلى معتقل باغرام الشهير. لكنه لم يجلس في السجن مكتوف اليدين بل صنع من السجن مدرسة ينقل فيها أفكاره الجهادية إلى جيل الشباب من المجاهدين الأسرى، من خلال دروسه التي كان يقيمها في السجن.

فكان يدرّس ويروي غليل طلابه في شتى الفنون، ودرّس مختلف الكتب، فمن أراد درّسه الكتب الابتدائية، ومن شاء درّسه الكتب الستة بما فيها الصحاح والسنن، وهذا من بركة مدرسة الجهاد يستغل المجاهدون فيها الفرص كلها على أحسن وجه.

وبعدما أمضى قرابة 3 سنوات في الأسر، أطلق سراحه، فهلل المجاهدون وفرحوا واستبشروا خيراً. وبعد مدة يسيرة قضاها بين الأهل والأولاد، عاد ثانيةً إلى أرض الجهاد، لم يشأ المجاهدون أن يتعبوه بالتنقل إلى المعارك وساحات القتال وطلبوا منه أن يكون في مديرية برافشة يقضي بين الناس في خصوماتهم ومشاكلهم. فجلس مدة يسيرة في برافشة يحل قضايا الناس، حتى قال لأخٍ بعد الخروج من إحدى هذه الجلسات: يا أخي! ما خلقتُ لهذا الشأن كي أجلس وأقضي وأحل خصومات الناس، إنما مُنيتي وهُيامي خوض المنايا وغمار المعارك لأكافح العملاء والخونة.

وأجبر المسؤولين على أن يرسلوه إلى ساحات الوغى، فاجتمع حوله لفيف من خيرة المجاهدين امتشقوا سيوفهم ونزلوا إلى ساحات الميادين على ثرى ولاية نيمروز، فقاتلوا المنافقين والخونة لساعات طوال حتى وقعوا في الحصار، وشدّد الأعداء هذا الطوق عليهم من كل جانب، وخرج الشيخ مرة من هذا الحصار، إلا أنه دخل مرة أخرى بنية إخراج الجرحى، ولكن قدّر الله وما شاء فعل، وأراد أن يختاره لصحبته فاستشهد مع مجموعة من المجاهدين الأبطال، وضمّخوا الثرى بنجيعهم الطاهر، فلله درهم وعلى الله أجرهم.

وحريٌ بنا في هذا المجال أن نذكر شيئاً من مواصفات رفاق الشيخ، ولو مروراً عابراً، فأحد هؤلاء الأبطال كان الأخ “بهلوان عمير” أي البطل عمير رحمه الله، كان -رحمه الله- من مواليد الثمانينات، وكان يعمل منذ عنفوان شبابه بكدّ يمينه وعرق جبينه، حتى انضم إلى حلقة الدعوة والتبليغ فالتزم وصار داعياً إلى الله، حتى وجد من أرشده إلى طريق الجهاد والاستشهاد، فمالبث أن التحق عام 1429م لصفوف القتال والنضال. وما لبث حتى صار من خيرة المجاهدين، وقد أعطاه الله سبحانه وتعالى قوة عجيبة فسخرها في سبيل الله، وأذاق الأعداء الأمرّين بميادين الحرب. فانتقل من معركة إلى غزوة، ومن عملية إلى أخرى، في مديريات نيمروز المختلفة. ولما انضم البطل إلى صفوف القتال، لم يفارق زملاءه في التبليغ؛ بل اجتهد ليصنع منهم جيلاً للجهاد في سبيل الله، فصفوف الجهاد بحاجة ماسة إلى وجود هؤلاء الشباب، وبحاجة ماسة إلى الرؤوس والأشلاء والدماء، فوفقه الله تعالى أن يرشد كثيراً من الشباب، منهم الأخ محمد إسماعيل، والأخ خالد رحمهما الله تعالى الذين أذاقا الأمريكان كأس العلقم في ولاية نيمروز.

والآن إخوانه الثلاثة يتناوبون على الذهاب إلى أرض الجهاد، وهكذا صارت أسرتهم أسرة مجاهدة، نذروا أنفسهم للجهاد في سبيل الله.

وأمّا بقية الإخوة، فسنتكلم عنهم إن شاء الله في حلقة أخرى.