نقاش علمي حول شروط السلام في الإسلام

أبو جهاد

 

 مقدمة‌ :

بعد سقوط الخلافة العثمانية، وتعطيل الشريعة الإسلامية، انبثق من جبال الهندوكوش وصحاري البلاد الأفغانية الخصيبة نور يتلألأ، وفار نبع عذب. ولم يكن هذا النور الساطع ولا ذلك النبع الصافي إلا الإمارة الإسلامية التي انطلقت لإقامة الشريعة الإسلامية، ومكافحة الفساد والمفسدين.

لم تتحمل أمريكا الغاشمة رؤية هذه الإمارة الفتية، وهاجمتها بذرائع واهية وبلا شواهد مقنعة، وكانت تظنّ أوان الهجوم بأنّ هذه الإمارة الفتية ستطوي بساطها عن ساحة الدَّيْر في أيام قلائل لأنها ما كانت تملك التجهيزات العسكرية المتطوّرة، وستهزم مخالفيه، وسترسخ قوائم نظامها على ثرى الأفغان، جاهلة بأنّ أبطال الإمارة صامدون أمامها ما دام فيهم عرق ينبض أو عين تطرف، وإن لم تكن في حوزتهم القنابل النووية والهيدروجينية، ولكنهم يملكون بين جنبيهم إيماناً، وإن لم تكن في حوزتهم القنابل الكيماوية، فإنهم يملكون سلاحاً بتاراً وهو الاستشهادي.

وعندما كانت أمريكا في قُمّة الصلف والغرور والغطرسة، واحتلت مع دول أخرى أرض الأفغان، لم يخطر ببالها السلام، أو الهدنة، أوالمفاوضة، بل كانت تتصلف وتأبى بأن تجلس على مكتب التفاوض مع الإمارة الإسلامية.

ولكن مع بداية حرب غير المتكافئة، اضطربت جميع معادلات أمريكا وتصوّراتها الموهومة، فأبطال الإمارة الإسلامية الذين جاؤوا بأيدٍ فارغة وبأسلحة بالية على حرب طائرات ” بي 52″، أطاروا النوم من جفون الأعداء، واستطاعوا في حرب الاستنزاف، أن يحطّموا قوى الأعداء، ويغيّروا الموازين والملابسات لصالحهم.

ولم يبق للعدوّ خيار سوى الهروب، إلا أنّ تجربة الهروب السوفييتي منعته بأن يهرب نهاراً جهاراً، فاختار روغان الثعلب وأخرج آخر سهامه من كنانته. تريد أمريكا بأن تستفيد في حربها مع المجاهدين من علماء المسلمين(!).

وعلى هذا الغرار، بدأت مؤتمرات في اندونيسيا ثم في كابل، ولكن ذلك لم يعد عليها بالربح والنفع الكبير، والآن هي بصدد أن تستفيد من اسم الحرمين الشريفين، وتعقد مؤتمراً في جدة، وتجمع علماء البلاط من هنا وهناك كي يفتوا ضدّ الجهاد.

 

ولكن كيف السلام؟

فالعلماء المجهولون الذين اجتمعوا في كابل، وطلبوا من المجاهدين أن يتركوا المقاومة والصمود أمام أمريكا، كانوا يكرّرون هذه الآية الكريمة: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ).

فهؤلاء إمّا كانوا جاهلين أو متجاهلين، لأنّ هذا المسألة واضحة كوضوح الشمس في رابعة النّهار، إلاّ أننا نسعى في هذه العجالة أن نناقش هؤلاء الفتّانين علمياً.

أجل؛ إنّ الإسلام قد أجاز السلام مع الكفار، فالله سبحانه وتعالى يقول: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)، ولكن ينبغي أن نفقه بأنّ السلام يتضمّن شروطاً نعثر عليها إن أمعنا النظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقوال الفقهاء وعلماء السلف، ومن هذه الشروط التي ينبغي أن نراعيها حين السلام مع الكفّار:

ألف – أن تكون في السلام مصلحة المسلمين والأمة الإسلامية، يقول العلامة ابن حجر رحمه الله: «أنَّ الأمرَ بالصُّلحِ مقيّدٌ بما إذا كان الأحظُّ للإسلام المصالحةَ. أمّا إذا كان الإسلامُ ظاهرًا على الكفرِ، ولم تظهر المصلحةُ في المصالحةِ فلا» [فتح الباري ۶/۲۷۵]

يقول العلامة الشيرازي: «فإن لم یکن في الهدنة مصلحة لم یجز عقدها لقوله عزوجل: «فلا تهنوا وتدعوا إلی السلم وأنتم الأعلون والله معکم.» [المهذب، ۲/۲۵۹].

ب – أن لا تبقى قدرة للمسلمين لقتال العدوّ، يقول العلامة الجصّاص الحنفي رحمه الله: «قال أصحابنا: إذا قدر بعض أهل الثغور علی قتال العدو ومقاومتهم، لم تجز لهم مسالمتهم، ولا یجوز لهم إقرارهم علی الکفر إلا بالجزیة».

فالعالم يرى تقدّم المجاهدين ومكتسبات الإمارة الإسلامية، ويشتدّ الحصار على العدوّ يوماً فيوماً، وتفتح عشرات الكيلومترات من أرض أفغانستان يومياً، وتطهّر من لوث المحتلين وأذنابهم العملاء، فهل يجوز مسالمة العدوّ مع هذه القدرة الفائقة؟

ج – أن يؤدّي الكفار الجزية أو كان رجاء في إسلامهم، يقول العلامة ابن قدامة الحنبلي: «ولا یجوز ذلك إلا للنظر للمسلمین، إما أن یکون بهم ضعف عن قتالهم، وإما أن یطمع في إسلامهم بهدنتهم، أو في أدائهم الجزیة، والتزامهم أحکام الملة، أو غیر ذلك من المصالح.»–

د – أن لا يتضمّن السلام شروطاً باطلة، لأنّ السلام لو تضمّن شرطاً باطلاً، بطل السلام أيضاً، وهذا السلام يكون باطلاً من الأساس، لأنّ هذا سلام الخزي وينجرّ إلى تأييد احتلال البلاد الإسلامية وإيقاف الجهاد ضدّ المحتلين، وينتهي إلى قبول القوانين الوضعية للبشر، وإشاعة الحضارة الغربية البالية، والربا، والقمار والميسر، والفحشاء والزناء و…، فالسلام الذي إن كان متضمّنا بهذه الشروط باطلٌ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من اشترط شرطاً لیس في کتاب الله، فهو باطلٌ وإن کان مائة شرط» [صحیح البخاري].

 

خسائر المسلمين في مسالمة العدوّ المحتلّ:

1 – هذه المسالمة، تفسح المجال للصليبيين لنهب الثروات وذخائر أفغانستان ومعادنها، وتتسبب بصلف أمريكا على صعيد العالم ولا سيما البلاد الإسلامية.

2 – تنجرّ إلى احتلال البلاد؛ فهل يجوز تقديم البلاد التي هي للإسلام والمسلمين بعد جميع هذه التضحيات، والدماء الطاهرة التي أريقت على طبق إلى الكفار الحاقدين؟ فالأرض ولا سيما الديار الإسلامية يرثها الصالحون لا المجرمون والجناة، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}.

3 – تنجر إلى الفساد والفحشاء والزنا والدعارة والمجون في البلاد الإسلامية، ويجعلون من أفغانستان مركزاً لترويج الفساد إلى الشرق الأوسط.

4 – يثبتون قوائم النّظام الجمهوري الزائف في بلادنا، ويزيلون شعائر الإسلام باسم الجمهورية وحرية الرأي.

5 – السلام مع العدوّ، ضوء أخضر لهجوم الأمريكا واحتلالها لسائر البلاد الإسلامية.

 

نظرة إلى صلح النبي صلى الله عليه وسلم:

ألف – عندما ضاق الخناق على المسلمين في عزوة الأحزاب، استدعى النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن الفزاري الغطفاني، والحارث بن عوف المري الغطفاني لطلب الرسولِ محمدٍ، وحضرا مع بعض أعوانهما إلى مقر قيادة الرسولِ، واجتمعا به وراء الخندق مستخفين دون أن يعلم بهما أحد، وشرع الرسولُ في مفاوضتهم، وكانت المفاوضة تدور حول عرض تقدم به الرسولُ يدعو فيه إلى عقد صلح منفرد بينه وبين غطفان، وأهم البنود التي جاءت في هذه الاتفاقية المقترحة:

– عقد صلح منفرد بين المسلمين وغطفان الموجودة ضمن جيوش الأحزاب.

– توادعُ غطفانُ المسلمين وتتوقفُ عن القيام بأي عمل حربي ضدهم، وخاصة في هذه الفترة.

– تفكُ غطفان الحصار عن المدينة وتنسحب بجيوشها عائدة إلى بلادها.

– يدفعُ المسلمون لغطفان مقابل ذلك ثلثَ ثمار المدينة كلِّها من مختلف الأنواع، ويظهر أن ذلك لسنة واحدة. فقد قال الرسولُ لقائدي غطفان: «أرأيت إن جعلت لكم ثلث تمر المدينة ترجعان بمن معكم وتخذلان بين الأعراب؟»، قالا: «تعطينا نصف تمر المدينة»، فأبى الرسولُ محمد أن يزيدهما على الثلث، فرضيا بذلك، وجاء في عشرة من قومهما حين تقارب الأمر.

وقَبْلَ عقد الصلح مع غطفان، شاور الرسولُ محمد الصحابةَ في هذا الأمر، فكان رأيهم في عدم إعطاء غطفان شيئاً من ثمار المدينة، وقال السعدان: سعدُ بن معاذ، وسعدُ بن عبادة: «يا رسول الله، أمرًا تحبه فنصنعه؟ أم شيئًا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ أم شيئا تصنعه لنا؟»، فقال: «بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما»، فقال له سعد بن معاذ: «يا رسول الله، قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قِرى أو بَيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم»، فقال الرسولُ محمد: «أنت وذاك»، فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: «ليجهدوا علينا». وفي رواية أخرى: بعد أن انتهى سعد بن معاذ من كلامه، سُرّ الرسولُ بذلك وقال: «أنتم وذاك»، وقال لعيينة والحارث: «انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف»، وتناول سعد الصحيفة وليس فيها شهادة فمحاها.

فنحن أيضاً نحب بأن نقتفي أثر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن نفاوض الدول التي حليفة للنيتو شريطة أن يتركوا قتال المسلمين، ولن نفاوضهم بأن يبقوا في بلادنا محتلين، ناشرين حضارتهم وثقافتهم، ويفسدون شبابنا وينهبون ذخائرنا.

ب – فاوض النبي صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش في الحديبية، ولم يكن بأن يحتلّ كفار المدينة كي يصلح النبي صلى الله عليه وسلم حينئذٍ المحتلين، بل كان النّبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يدخل في أكبر مُدن الكفار في أرض الحجاز ولكنهم سدّوا سبيله، فصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم.

فإذا ما حاصرنا أمريكا واستدعى منا العدوّ التفاوض والصلح، فنقتفي آنذاك نبينا ونصالحهم وفق الشروط، وما ذلك على الله بعزيز.

ج – بعدما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، صالح اليهود، ولكن لو طالعنا كتب السيرة لنجد بأنّ المسلمين كانوا أكثر قوة من اليهود، فتعاهدوا بأن يدافعوا عن المسلمين أمام هجمات الأجانب، وصالحهم في حين لم يكن اليهود محتلّين المدينة، فيطلب النبي منهم حفاظة نفسه أو أقربائه.

 

 تفاوت حكم الصلح في الجهاد الابتدائي والدفاعي:

جميع أشكال الصلح التي قرأناها آنفاً تحكي بأن لا تكون بلاد من البلاد الإسلامية محتلة ويكون الجهاد فرض كفاية، ولكن إذا كانت بلاد إسلامية تعاني الاحتلال، فيصير الجهاد فرض عين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدین واجب إجماعاً، فالعدو الصائل الذي یفسد الدین والدنیا لاشيء أوجب بعد الإیمان من دفعه».

جاء في فتح العلي لمالك في الصلح والمعاهدة في المعيار – في باب الجهاد – ما نصه: (أوقع الخليفة الصلح مع النصارى والمسلمون لا يرون إلا الجهاد فمهادنته منقوضة وفعله مردود) [فتح العلی المالک، باب الجهاد: ۲۸۹/۱] وانظر كذلك: مختصر ابن کثیر: ۱۴۴/۲؛ حاشیة ابن عابدین: ۲۳۸/۳؛ بدائع الصنائع: ۷۲/۷؛ البحر الرائق: ۱۹۱/۵؛ فتح القدیر: ۱۹۱/۵؛ حاشیة الدسوقي: ۱۷۴/۲؛ نهایة المحتاج: ۵۸/۸؛ المغني: ۳۴۵/۸؛ أحكام القرآن ۴/۳۱۲]

والسؤال المطروح على علماء البلاد: هل البلاد محتلة أم لا؟

وهل الصليبيين وعلى رأسهم الأمريكان يريدون صلاحنا؟ وهل كان الصلح مع الصليبيين في زمن من الأزمان وعلى مرّ التاريخ لصالح المسلمين أم لخسارتهم؟

أو لا يعلم هؤلاء العلماء! بأنّ المآت من المسلمين مأسوران خلف قضبان الألم بأيدي الصليبيين بلا جريمة سوى أنهم دافعوا عن كرامتهم وعرضهم وعقيدتهم؟ أو لا يعلمون بأنّ فكاك الأسرى المسلمين الذين هم بأيدي الكفار، ومعتقلون في البلاد الإسلامية ولم يُخرجوا منها، فرض عين؟

يقول الإمام النووي رحمه الله: «فإن کانوا [الأسرى المسلمون] علی قرب دار الإسلام وتوقّعنا استخلاص من أسروه لو طرنا إلیهم فعلنا.» [الروضة، ۱۰/۲۱۶].

يقول العلامة العزّ بن عبدالسلام رحمه‌ الله: «وإنقاذ أسری المسلمین من أیدي الکفار من أفضل القربات، وقد قال بعض العلماء: إذا أسروا مسلماً واحداً وجب علینا أن نواظب علی قتالهم حتی نخلصه أو نبیدهم، فما الظن إذا أسروا خلقاً کثیراً من المسلمین.» [أحکام الجهاد وفضائله ص/۹۷] .

إذاً فلينظر هؤلاء العلماء إلى سجون الصليبيين في أفغانستان وهي مليئة من الأسرى المسلمين، ففكاك هؤلاء أليس فرضاً؟ فهل يمكن أن نصالح هؤلاء؟ كيف يمكن ذلك وبم؟ لا يقبل ذلك عقل سليم.

وأخيراً، أقول للذين يدندنون بالتديّن: أين أنتم يا ورثة الأنبياء؟ لماذا لا نراكم في صفوف الدفاع عن الوطن؟ فالقرآن الكريم مليء بآيات الجهاد، لم لا تعملون بها؟ فهل واجب على عوام المسلمين أن يعملوا بها فحسب ولا يلزم عليكم؟ لماذا لا تسوقكم غزارة علمكم عن المساهمة في ميادين القتال والدفاع عن الوطن؟ إنّ هذا العلم لا قيمة له مثقال ذرة، كما قال إقبال اللاهوري رحمه الله:

من آن علم و فراست با پر کاهی نمی‌گیرم / که از تیغ و سپر بیگانه سازد مرد غازی را

(لا أشتري ذلك العلم والفراسة الذَين، يبعدان العالم والمجاهد عن السنان والترس وميادين القتال، بريشة تافهة أو شيء بخس).

ولا يُنسى بأنّ كلامنا موجه إلى علماء البلاد والسلاطين، الذين يُعدون علماء وشيوخ حديث برأي ترامب، أمّا الأمة لا تعترف بهم ولا تقدّرهم، وإنّ لمن السعادة أنّ جهاد مجاهدي الإمارة الإسلامية أيّده معظم علماء المسلمين في شتى بقاع الأرض، وإنّ هذا الجهاد وضع العلماء لبنته الأولى، ثم أيدوه وساندوه، ويمضي الآن قُدماً بترشيد العلماء.

إلى لقاء يوم نرى فيه الحق منتصراً على الباطل، وجميع مؤامرات الأعداء المحتلين ودسائسهم الخبيثة محبَطة، والله غالبٌ علی أمره ولکن أکثر الناس لا یعلمون.