فشل الإستراتیجیات الأمریكیة في أفغانستان

sl2

sl2

أمریكا وإعلان الانتصار الكاذب :

هاجمت أمریكا علی أفغانستان قبل ما یقرب من 12 عاماً وكان الحكام الأمريكيون یظنون أنهم سیحتلّون هذا البلد في غضون أیامٍ وسیقیمون فیه حكومة یرضونها لینشؤوا فیه القواعد العسكریة العملاقة. 
وقد غرّ تحول المجاهدین من إستراتيجية حرب الجبهات إلی حرب العصابات الجنرالات الأمریكیین الغرباء علی هذه الأرض علی التسرع في إعلان الانتصار علی الإمارة الإسلامیة، وأعلن وزیر الدفاع الأمریكی آنذاك الجنرال (دونالد رامسفیلد) إنهاء الحرب في أفغانستان بعد العملیات العسكریة العملاقة التي سمّاها الأمريكيون بـ (عملیة الحرّیة الخالدة ).

وقد أیقن العالم وأمریكا في السنوات الثلاثة الأولی أنّ مشكلة أفغانستان قد انتهت، ولذلك تجرأت أمریكا علی غزو العراق.

وكانت الصحافة العالمیة أیضا تسعی آنذاك أن تقدّم للعالم صورة عن قضاء القوات الغربیة علی المقاومة في أفغانستان، وكانت تصف المجاهدین المقاومین بـ (فلول الطالبان)، وكانت تزعم بأن الأفغان قد تعبوا من المقاومة.

الاّ أنّ قادة الحرب الأمریكیین لم یغفلوا عن وجود المقاومة السریة للمجاهدین، ولكنهم ظنوا أن جیوب المقاومة السریة یمكن القضاء علیها بالحرب الناعمة عن طریق شراء الضمائر وتقدیم الرشاوى كما ظنوا أنهم یمكنهم القضاء علیها عن طریق الحرب الفكریة والإعلامیة، ولذلك فكر الأمریكیون في إیجاد مجلس باسم (مجلس المصالحة) وطلبوا عن طریقه من (الطالبان) أن یستنكفوا عن مواصلة المقاومة.

وقد عبّر عن ردّ الشعب الأفغاني علی هذا الطلب الأمریكی آنذاك شاعر المجاهدین الأخ الشهید (نور الله درویش) رحمه الله تعالی في قصیدته التي كان معنی مطلعها \: لا تُمنّینّ نفسك بانتهاء الحرب – من قال أنّ الحرب قد انتهت؟ إنّنا لم نبدأ الحرب بعد، إنّها ستبدأ بعد الآن.

بدأ الحرب الحقیقیة:

إنّ المقاومة الجهادیة ضدّ القوات الغربیة كانت موجودة في جمیع أفغانستان من بدایة غزو أمریكا لهذا البلد، ولكنّها كانت سرّیة في بعض المناطق في سنواتها الأولی مع قلّة في كمیّتها وضعف في تأثیرها.

وكعادة الشعب الأفغاني في القضاء علی المحتلّین بحركة بطیئة كانت المقاومة ضدّ أمریكا أیضا تمضی قُدُماً بخطوات ثابتة وحركة متدرجة ومستمرّة إلی أن بلغت عاميّ 2005 م و 2006 م اللذین ظهرت فیهما المقاومة إلی العلن في معظم مناطق أفغانستان، وسیطر فیهما المجاهدون علی معظم المناطق الریفیة في أكثر الولایات الأفغانیة.

وكانت نتیجة هذا التحول الكبیر هو انحصار سلطة العدو الخارجي وأذنابه من العملاء في المدن وعلی امتداد الطرق الرئیسیة في البلد، فتغیرّت أوضاع المعركة، وانحصر تواجد العدو في قواعده العسكریة، وتراجعت عملیاته من الهجومیة إلی الدفاعیة.

وفي المقابل قویت عملیات المجاهدین إلی حدٍ لم یكن یتوقّعها الأمريكيون، حتی أنهم خافوا من استیلاء المجاهدین علی المدن أیضا إن لم تغیر أمریكا إستراتيجية الحرب في أفغانستان، لأنّ جمیع العملیات الكبیرة للأمریكیین والتی كانوا یعلنون عنها بأسماء مختلفة كانت قد واجهت الفشل الذریع بشكل مستمرّ، وكان من أسباب الفشل أنّ القیادة الأمریكیة للحرب في أفغانستان لم یكن لدیها عدد كاف من الجنود لإنشاء القواعد العسكریة خارج المدن لتقوم بالعملیات في القری والأریاف وتثبت وجودها العسكري فیها بشكل مستمرّ. لأنّ الجنود الأمریكیین كانوا یعودون بعد كلِّ عملیة إلی مراكزها في المدن، وبعد عودة القوات الأمریكیة كانت المقاومة الجهادیة تظهر في تلك الساحات في صورة أقوی مما كنت علیها في السابق، وبروح قتالیة جدیدة ومعنویات عالیة.

إستراتيجية القوات الإضافية:

تولّی (بارك اوباما) زمام السلطة في أمریكا في الوقت الذي كانت تعیش فیه القوات الأمریكیة في أفغانستان في وضع سیّئ للغایة، وكان المذكور قد فاز في الانتخابات الأمریكیة مستخدماً شعار (التغییر) تجاه الحرب الأمریكیة في أفغانستان، ولذلك كانت قضیة أفغانستان عنده في أولویات عمله، وكان قد أشار علیه صانعو الإستراتیجیات العسكریة في أمریكا أن یزید من عدد القوات الأمریكیة في أفغانستان آخذاً في البال إفادیة هذه التجربة في العراق، وبذلك سیتمكن من القضاء علی المقاومة في أفغانستان.

فوضع واضعو الاستراتیجیات العسكریة الأمریكیین إستراتیجیة جدیدة للحرب في أفغانستان باسم (إستراتیجیة أوباما)، وكان من أثارها عزل قائد القوات العسكریة الأمریكي العام في أفغانستان الجنرال (دیفید مكرنن) وتعیین أحد الجنرالات الآخرین من ذوي النجوم الأربعة وهو الجنرال (مك كرستال)، وكان قوام هذه الإستراتيجية الجدیدة هو إرسال عشرات الآلاف من الجنود الأمریكیین الجدد لمقاومة (طالبان) في القری والأریاف وإنشاء القواعد العسكرية فیها للحفاظ علی السیطرة الأمریكیة علیها.

أعلن (أوباما) عن هذه الإستراتيجية في نهایة العام 2009م وقد نفخ فیها آنذاك الإعلام الغربي كثیراً وعبّر عنها كأعظم إنجاز عسكري في حرب أمریكا في أفغانستان، إلاّ أنّ الإمارة الإسلامیة كانت قد صرّحت في ردّها علی هذه الإستراتیجیة آنذاك بأنّ نتیجة ازدیاد الجنود الأمریكیین في أفغانستان لن تكون إلاّ ازدیاد الخسائر في أرواح الجنود الأمریكیین. وقد أیدّت الأیام البعدیة صدق تنبّؤ المجاهدین في هذا المجال. 
نفّذ الأمريكيون إستراتيجيتهم الجدیدة بدأً من عام 2009م إلی 2011م، وكانت الخسائر المصاریف الأمریكیة في هذه الفترة في أفغانستان أكبر من أي وقت آخر، وهي كانت في الحدّ الذي لا تطیق أمریكا تحمّلها إلی زمن طویل.

وقد توصّل قائد القوات الأمریكیة في أفغانستان الجنرال (دیفید بترایوس) في الأخیر إلی قناعة فشل إستراتيجية أوباما الجدیدة، وأنّ أمریكا لا تستطیع أن تواصل مثل هذه الحرب المُجهدة والمستنزفة لزمن طویل، كما لا یمكنها أن تمولّ قوات أمریكیة مقاتلة قوامها أكثر من مئة ألف جندي في أرض بعیدة عن أمریكا وفي بیئة غربیة علی الجنود الأمریكیین.

فواجه الأمريكيون في هذه الفترة نفس الأوضاع التي كانوا یواجهونها عام 1972م في (فیتنام)، وقد كتبت أشهر الجرائد الفرنسیة وهي جریدة (نوول ابزرفر) في أواسط عام 2011م في مقال تحلیلي عن وضع (أوباما) والقوات الأمریكیة آنذاك: (إن أوباما غرق في مستنقع الحرب في أفغانستان مثلما كان قد غرق (ریشارد نكسون) في مستنقع فیتنام، ولا مخرج لأوباما من هذا المأزق إلاّ المخرج الذي جرّبته أمریكا للخروج من مأزق فیتنام).

وحین رأی الأمريكيون فشل إستراتيجية أوباما الجدیدة المتمثلة في إكثار القوات الحربیة في أفغانستان عَمِدوا إلی التفكیر في وضع إستراتیجیة جدیدة والتي عبّر عنها المحللون السیاسیون العسكریون بـ (إستراتيجية أفغنة الحرب).

إستراتيجية أفغنة الحرب :

إن أمریكا كانت قد جرّبت إستراتيجية (فتمنة الحرب) في حرب (فیتنام) أیضاً بعد فشل جمیع استراتيجياتها السابقة. وكان القادة الأمريكيون في حرب (فیتنام)، قد توصّلوا إلی نتیجة عدم انتصار الجیش الأمریكي في الحرب ضدّ الفیتنامیین، ولكنهم في نفس الوقت كان لا یروق لهم أن یعترفوا بالهزیمة أمام الفيتناميين، ولكی یكون قادة الحرب الأمريكيون قد جنّبوا الجیش الأمریكیین آنذاك من تقبّل الهزیمة المباشرة فبدأوا العمل في عام 1973م علی سیاسیة (فتمنة الحرب)، وسلّحوا عملائهم ومرتزقتهم من الفیتنامیین تسلیحاً قویاً لیمكنوهم من محاربة المقاومین الفيتناميين ليتحمل العملاء عناء الحرب ومرارة الهزیمة، ولیتمكن الأمريكيون من الخروج المحترم من أرض المعركة في (فیتنام).

كان الأمريكيون قد بدأوا العمل في إیجاد الملیشیات والجیش الأفغاني العمیل من بدایة غزوهم لأفغانستان، وبعد 2011م توجّهوا إلی هذا العمل بمزید من الجدّیة والاهتمام، فأوجدوا في المناطق الریفیة الملیشیات المحلیة (الأربكیة) الشبیهة بالصحوات العراقیة لملأ الفراغ الذي سیتركه الأمريكيون. وهكذا أوجد الأمريكيون خلال السنوات الماضیة ما یقرب من ثلاث مئة ألف مسلح ما بین الجنود والشرطة والملیشیات المحلیة لمواصلة الحرب نیابة عن القوات الأمریكیة.

وبعد إیجاد هذه القوات خرجت القوات الأمریكیة من بعض المناطق التي لم تكن فیها المقاومة قویة، وفي المستقبل القریب یرید الأمريكيون أن یخرجوا من بعض المناطق التي توجد فیها المقاومة القویة أیضاً، ولذلك قال الجنرال (جوزف دانفورد) قائد القوات الأمریكیة في أفغانستان قبل أیام بأنّ العام القادم سوف یكون عام اختبار للقوات الأفغانیة التي أنشأها الأمریكیون.

إنّ إستراتيجية (أفغنة الحرب) التي یُسمّیها الأمريكيون (عملیة نقل المسؤولیات الأمنیة إلی الجانب الأفغاني) لا زالت لم تكتمل بعد، بل هي طبّقت في بعض المناطق فقط، إلاّ أنّ الأوضاع والآثار الناتجة عن الانسحاب الأمریكي من هذه المناطق تُثبت فشل هذه الإستراتیجیة الأمریكیة أیضا مثل بقیة الإستراتیجیات السابقة، ولن یجني منها الأمريكيون ما یحلمون به.

فشل إستراتیجیة (أفغنة الحرب ) :

تقع ولایة (بادغیس) في أقصی الشمال الغربي من أفغانستان، وهي تعتبر من المعاقل الجهادیة المعروفة في هذا البلد.

تمركزت قوات التحالف الغربي في عام 2002م في مركز هذه الولایة مدینة (قلعه نو) وقد بدأت الانتفاضة الجهادیة في هذه الولایة بكل قوتها في عام 2007م وسیطر المجاهدون فیها علی مناطق واسعة مما اضطر الأمریكیین إلی إرسال آلاف الجنود الإضافیین إلی هذه الولایة عام 2010م لإحكام السیطرة في المناطق الریفیة، وقد أنشأ الأمريكيون آنذاك كثیراً من القواعد العسكریة القویة في مركز الولایة ومدیریات (بالامرغاب) و(قادس) و(مقُر) و(دره بم) و (غورماچ). وبما أنّ الأمریكیین واجهوا في هذه المناطق مقاومة شدیدة وهجمات مستمرّة، فبدأوا بإیجاد الملیشیات المحلیة وتوزیع السلاح علی الناس لیخلفوا الأمریكیین في هذه المناطق بعد رحیلهم منها.

ولكن الذي حدث هو أنّ الأمریكیین حین بدأوا انسحابهم من هذه المناطق عام 2012م بدأ مع انسحابهم استسلام الملیشیات المحلیة للمجاهدین في مجموعات كبیرة كان یصل عدد أفرادها إلی المئات، وجاؤوا معهم بكامل أسلحتهم ووسائلهم إلی المجاهدین. فعادت الأحوال في (بادغیس) إلی ما كانت علیها في عام 2009م، فلا یوجد الآن الأمريكيون إلاّ في مركز هذه الولایة مدینة (قلعه نو)، وأّمّا بقیة المناطق الریفیة في المركز والمدیریات فتخضع جمیعها لسیطرة المجاهدین.

ولیست الولایة (بادغیس) هي الوحیدة التي یسیطر فیها المجاهدون علی الساحات الریفیة، بل هو الوضع العام في جمیع المناطق التي خرج منها الأمريكيون مثل ولایات (فاریاب) و(فراه) و(غور) و(سرپل) و(لوگر) و(وردگ) و(بكتیا)، ویتكرر هذا الوضع في معظم المناطق التي یخرج منها الأمريكيون.

إنّ الأمریكیین يراهنون في إنجاح هذه الإستراتیجیة علی الجنود العملاء والمرتزقة المحلیة، ویظنّون أنّ هذه القوات العميلة ستواصل الحرب بعد هروب الأمریكیین من أفغانستان، ولكنّ الذي شوهد هو أنّ هذه القوات إمّا أنها لا ترغب في الحرب، أو أنّها تستسلم للمجاهدین وتُلبّي دعوة لجنة الدعوة والإرشاد للمجاهدین، ویبذل لها المجاهدون الأمن وضمان الحیاة الآمنة.

وقد استسلم للمجاهدین كثیر من هؤلاء الجنود في الأسابیع الأخیرة في ولایات (ننگرهار) و(لغمان) و(بكتیكا) و(أرزگان) و(هلمند) و(فراه) و(فاریاب).

وأمّا الذین لا زالوا یصرّون علی الحرب فهم أضعف من أن یقوموا بما یرجوه منهم الأمريكيون.

وقد أثبتت الخسائر الكبیرة لجنود الحكومة العمیلة وانتصار المجاهدین وتحریرهم المناطق الكثیرة في ولایات (بدخشان) و(كندز) و(جوزجان) و(فاریاب) و(غزنی) و(هلمند) والمناطق الأخری أنّ قدرة المرتزقة الوكلاء في مواصلة هذه الحرب ضعیفة جداَ، ولا یمكنهم بأيّ حال أن یقوموا بأداء المهمة الموكولة إلیهم.

وعلاوة علی ذلك فقد أظهرت الدراسات الأخیرة أنّ عدداً كبیراً من أفراد الجیش والشرطة والملیشیات هم في حالة الفرار من صفوف قوات الحكومة. وإلی جانب ذلك فقد تسبب الفساد الموجود في الإدارات الحكومیة في حالة الیأس والتذّمر في صفوف قوات الحكومة مثلما هو في نفوس مموّلي هذه القوات من الدول الغربیة. إنّ الجنود الآن یتساءلون ما الهدف من الحرب؟ وعمّن یدافعون ؟.

إنّ الأمریكیین كانوا یعتبرون مشروع إیجاد الملیشیات المحلیة بالأمس من أنجح المشاریع، إلاّ أنّ هذا المشروع الیوم بات مهدّداً بالزوال النهائي، لأنّ الشعب الآن یكره هذه الملیشیات بسبب ظلمها للناس، وحشیتها، وشهرتها بسوء الخلق، واللصوصیة والفضائح الأخرى.

إنّ الملیشیات المحلیة الفاجرة لا تكنّ الإخلاص للأمریكیین أیضا، بل هم یطمعون في دولاراتهم فقط، وقد حدث قبل فترة أن وظّف الأمريكيون أحد اللصوص المشهورین بإیجاد الملیشیات المحلیة في ولایة (بكتیا) وأعطوه أموالاً كثیرة لشراء الذمم وإنجاح مشروع الملیشیات، فما كان من ذاك اللص إلا أن خدع الأمریكیین وهرب بجمیع الأموال واختفی في مكان غیر معروف.

وكذلك ثبت من غلبة المجاهدین في منطقة (شلگر) من ولایة(غزنی) علی الملیشیات المحلیة والقضاء علی عدد كبیر منهم بشكل متكرر، ومن تصفیة المجاهدین للمناطق الكثیرة من تواجد هذه الملیشیات في ولایة (فاریاب) بأنّ الملیشیات المحلیة التي یربط بها الأمريكيون آمالهم في مواصلة الحرب لا یقدرون علی مواجهة المجاهدین، وأنّ مشروعهم مشروع فاشل تماماً.

إنّ هذه الأمثلة والأدلة كلها تؤكد علی أن تصور الأمریكیین لإطالة الحرب في أفغانستان عن طریق الوكلاء المحلّیین تصور خاطئ، ولیس ببعید أن یواجه الأمريكيون فضیحة الهزیمة في مشروع إطالة الحرب عن طریق الوكلاء في أفغانستان كما واجهوها عام 1975 م في (فیتنام).

انتهی