جاذبية أرض الجهاد

غلام الله الهلمندي

 

يوشك العام الدراسي في بلادنا على الانتهاء في مدارسنا الشرعية المستقلة، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، والإجازات السنوية أصبحت قاب قوسين أو أدنى. كلما اقتربت الإجازات السنوية واقترب موعد الذهاب إلى أرض الجهاد الحبيبة، كلما اشتعلت نار الحب في قلوب العشاق، عشاق الجهاد، عشاق الشهادة، عشاق الجنان، عشاق الفردوس. وكلما اشتعلت نار الحب، ازدادت الجفون حرقة، وازدادت العيون دمعاً، إن عشاق الجهاد في هذه الأيام يذوبون كمدًا، ويتململون شوقا، ويرقصون فرحا بقرب ميعاد المعارك، حيث تفوح روائح الموت، بل روائح الإيمان والحب والصدق والعطاء، ونار اشتياقهم تزداد يوما بعد يوم، كأنهم على أحر من الجمر.
قابلت قبل أيام عالِما شابا زكيا، أعرفه منذ عشر سنين، يدرّس في إحدى المدارس الدينية الشهيرة -لا داعي لذكر اسمها، وأيضا لا داعي لذكر اسمه أعني العالِم الشاب- إنه ليس رجلا ذا عاطفة جياشة، ولا يملك مشاعر عاطفية خصبة كما العادة، واستمطار الدمع من عينه ربما أصعب من قلع الجبل إن صح التعبير، أعني أنه يتميز بالصلابة والقدرة على إخفاء مشاعره، ولكنه بالنسبة للجهاد والمجاهدين سريع التأثر عاطفيا، مفعم بالأحاسيس الطيبة، والعواطف النزيهة، كان يقول بصوت مليء بالإحساس النقي وقد شدّه الشوق إلى معارك “خاشرود” قال: متى تنتهي السنة الدراسية، فإني قد اشتقت لها، قال ذلك والشوق يموج في جبينه، ويرقص الحب في وجنتيه.
إنه الجهاد في سبيل الله الذي يجذب إليه من لا ينجذبون إلى شيء أبدا.

قبل سنوات في “برامشا” وقع نظري فجأة من بعيد على رجل عجيب، أقل ما أستطيع أن أقوله عنه هو أنه كان “عبوسا قمطريرا”، في الوهلة الأولى كذّبت بصري، لم أكن أستطيع أن أتأكد بأنه هو، فإنه عندما كان يدرس معنا في مدرسة شرعية، لم يكن يتصل بأحد من الأصدقاء بالإطلاق، لم يكن يتحدث مع أحد، ولا يجالس أحدا، ولا يبتسم مطلقا أو قل لا يبتسم إلا نادرا، كان يعيش وحيدا منعزلا في أكثر الأوقات، ولكن أرض الجهاد تستقطب إليها من لا يملك أي إحساس، إنها معجزة أرض الجهاد.
حالة غريبة يعيشها الإنسان في الجهاد في سبيل الله، يكفي أن تلتحق مرة واحدة بقافلة المجاهدين، يكفي أن تعيش معهم أياما ولو قليلة. ثم لا تستطيع أن تغادرهم، ولا تستطيع أن تنساهم، ولا تستطيع أن تتخلف عن ركبهم، فإن المجاهد يعيش في الخنادق، حالة روحانية عاطفية غريبة من الطمأنينة والمودة والسعادة والسكينة والبساطة والهدوء.

ومن عجائب أرض الجهاد أن أصعب الظروف هي أكثرها حلاوة، بقدر ما تشتد الظروف وتقل الرفاهيات وأسباب الدنيا بين يدي المجاهد، بقدرما يوسع الله عليه، ويفتح له أبواب الخير والسعادة والطمأنينة.
هنا في أرض الأفغان أجواء خيالية من السكينة والطمأنينة والسعادة والسرور، هناك ملذات روحانية فوق الملذات العاجلة والراحات البدنية، أجواء جميلة فوق الوصف، يحس بها المجاهد في أعماق وجوده داخل الخنادق في الساحة الأفغانية.
هناك قانون فيزيائي يعرفه الجميع، وهو قانون الجاذبية الأرضية، حسب هذا القانون، تنجذب الأشياء نحو الأرض، ولكن هناك قانون آخر، يخص الأراضي الجهادية فحسب، إن الأراضي الجهادية تجذب نحوها أناسا عشاقا، أناسا يعشقون الموت في سبيل الله، تجذب كل من يملك في قلبه قطرة من الإيمان والحب والإخلاص.
إنه الشوق إلى صيحات المجاهدين أثناء الاشتباكات “الله أكبر…..” الشوق إلى صيحات الجهاد المدوية التي تملأ الصحاري الواسعة، الشوق إلى الأحباب السعداء الذين يقضون جميع أيام السنة هنالك، في الجهاد في سبيل الله، الأحباب الذين طلّقوا الدنيا ومتاعها وراحتها ثلاثا، ونذروا أنفسهم للجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله، الأحباب الذين لا يبالون بالعطش والجوع، بالتعب والسهر، بالحر والبرد، كأنهم ألفوا الأهوال والظروف القاسية، كأنهم أنسوا بالليل المظلم البارد، كأنهم يعشقوق الموت ويستعذبون نسيم الغبار الذي يتطاير من أثر المعركة، من تحت الأقدام ومواقع النبل، ربما الشوق إلى الإخوان الذاهبين الذين استشهدوا.
كم من شاب مراهق يستعد في هذه الأيام للذهاب إلى أرض الجهاد، وأترابُه لاهون يلعبون. كم من شاب يفكر في هذه الأيام ليل نهار بالالتحاق بصفوف المجاهدين، وزملاؤه يستعدون للسفر إلى الشواطئ والمنتزهات ومراکز الترفيه. کم من شاب یری في منامه أنه اتخذ مكانه في الخندق، منتظرا بدء العمليات، ورفاقه غافلون يمرحون. كم من شاب يستعد للطيران نحو أحلامه وتطلعاته وآماله، وأصدقاؤه غافلون استغفلتهم الدنيا، وروّعهم الموت. كم من شاب (وقد شدّ به الخيال) يخطو في عالم الخيال فوق ثرى الأفغان، ويترنّم: “كم اشتقت لك يا أرض الجهاد والاستشهاد! كم أحبك يا مهد الأبطال والليوث! كم أتمنى أن أستنشق نفحتك العاطرة يا أرض الفداء والعطاء! يمشي في عالم الخيال في أرض الجهاد، والدمع يترقرق في مقلتيه.

فسلام من أعماق الصدر على هؤلاء الشبان، على آمال الغد وأضواء المستقبل، على كل شاب باسل يهتم بقضايا أمته، يغير مجرى التاريخ ويسطر التاريخ بدمه ويعلّم الأمة روح الجهاد والبذل والتضحية، ويبذل في سبيل القيام بواجبه تجاه الأمة عَرَقه ودمه ونومه وراحته، وتحية من أعماق الأعماق لشاب يستغل قوته وشبابه ضد العدو، ويفكر في إعلاء كلمة الله ونصرة المستضعفين في زمن يهتم الشبان بتجميلهم -وبتعبير أدق بتخنيثهم-، في زمن تنجرف البشرية نحو هاوية الماديات، في زمن يستغرب أشباه الرجال الجهاد في سبيل الله، ويحسبون الدفاع عن الدين تعصبا وتطرفا وظاهرة عجيبة مجهولة، في زمن يقال فيه: “مؤخرة ترامب أشرف وأنظف من وجوه قادة الحركة الجهادية الفلانية!” يا سلام! حسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.
ليت شعري كيف يطيق المسلم الغيور أن يتنصل من أداء واجبه، ولا يجاهد دفاعا عن دينه وشريعته، وحماية عرضه وأمهاته وأخواته، ليت شعري كيف لا تدرّ عرقَه كلُّ هذه المآسي التي أحدقت بالمسلمين.
ليت شعري كيف يطيب لك العيش أيها الشاب المسلم، والذئاب البشرية ترتشف ما تبقّى من دماء المسلمين؟ كيف يحلو لك النوم ودينك يهان في مشارق الأرض ومغاربها، والأعداء يقسمون أراضي المسلمين، كيف يهنأ لك الطعام، والأمة تصرخ صراخا يذوب له القلب، كيف يهنأ لك الشراب وسيوف الصليب والغدر مزروعة في خواصر أمتك؟