من أي كلية تخرّج الملا عبد الغني برادر؟

محمد إلهامي

 

يقال بأن عبد الغني برادر -نائب مسؤول المكتب السياسي لحركة طالبان- لم يتخرج من أي كلية!

سواء صحت هذه المعلومة أم لم تصح في نفسها، فإن المعنى الذي تشير إليه هو حقيقة تترسخ عندي كل يوم، ربما كل ساعة!

إن ما يطلق عليه “العلوم” الإنسانية ليست في حقيقتها “علوما” وإنما هي أشبه بالفنون والمهارات والمواهب.. يستطيع الإنسان تعلم الجبر والهندسة والفيزياء والكيمياء ويستطيع استثمار هذه العلوم في إنتاج ما يفيده، ويستطيع تطوير منتجاتها دائما.

بينما شأن السياسة والتعامل مع النفوس والمجتمعات وإحسان مخاطبتها والتأثير عليها وتوجيهها؛ ليس كذلك.. والحديث عن أنها علوم إنما هو حديث مجازي، ولا يزال النقاش محتدما فيما إذا كان ينبغي أن يُطلق على هذه الأمور علوما أم لا، أم يطلق عليها علوما من نوع خاص، لأن بعضها فيه ما هو من العلم وفيه ما هو من الموهبة والمهارة، ثم لا يزال النقاش محتدما ما إن كان التعامل الأفضل هو تفسير هذا ضمن نظرية كلية حاكمة فوقية، أو هو تتبع الجزئيات التطبيقية لتكوين نظرية كلية أو حتى عدم تكوينها!

ربما يبدو الكلام معقدا.. دعك من التعقيد، المسألة ببساطة: هل من الممكن لمن يتعلم علم النفس أن يحسن التعامل مع النفوس؟ أو لمن يتعلم علم السياسة أن يحسن السياسة؟

والإجابة ببساطة أشد: لا!

إنك ترى في حياتك أستاذا في كلية التجارة لا يستطيع أن يكون تاجرا ماهرا، بينما يستطيع هذا رجل لم يدخل مدرسة في حياته!

هذا مع أن الحساب علم رياضي بحت، ولكن التجارة أمر فوق إحسان الحساب، إنها تتعلق بالذكاء الاجتماعي والبصيرة والقدرة على استثمار الفرصة أو حتى صناعتها، بالقدرة على المساومة وقراءة الرغبات والوصول إلى حلول وسط!

فكيف بعلوم هي كلها هذه المهارة؟!

إن التعامل مع النفوس يجيده أشخاص لم يقرؤا حرفا في علم النفس، والقدرة على التفاوض يجيده من لم يقرأ حرفا في التفاوض، وفهم السياسة يجيده من لم يقرأ شيئا في نظريات السياسة الأكاديمية.. وعلى الجانب الآخر: كم أخرجت هذه الكليات من ناجحين في هذه الأبواب؟!

يستطيع الفيزيائي أن يكتشف قانونا جديدا، فيطور صاروخا جديدا، فيكتشف قطعة جديدة من الفضاء، وهو يبني على علوم من سبقوه، وسيبني على علومه من جاء بعده!

أما الذي يبحث في “علم” النفس أو السياسة أو الاجتماع فهو لن يكتشف شيئا جديدا، فسائر ما سيكتشفه سيكون الزعماء والساسة قد طبقوه بالفعل من قبل، فعلوا ذلك بالفطرة والموهبة والطبع، ستكون إضافة الباحث في هذه العلوم أنه يستخرج الصياغة الدقيقة لطبع ما، أو قياس النسبة بين حالتين متشابهتين أو متناقضتين، أي أنه في النهاية: يفسر ما قد كان، لا أكثر.

هل هذه دعوة لهجر هذه العلوم؟!

لا.. هي دعوة لفهم أن هذه العلوم ليست علوما جامدة قاطعة في نفسها أولا، ثم هي دعوة لفهم أن هذه العلوم لا تكتشف جديدا وإنما تفسر ما قد فعله البشر دائما، ثم هي دعوة لفهم أن هذه العلوم لن يستفيد منها من كان خاليا من الطبع الموافق لها والميل إليها..

نحن بحاجة إلى التجار أكثر من حاجتنا إلى أساتذة كلية التجارة..

ونحن بحاجة إلى الساسة أكثر من حاجتنا إلى أساتذة العلوم السياسة..

ونحن بحاجة إلى زعماء المجتمع أكثر من حاجتنا إلى أساتذة الاجتماع..

ونحن بحاجة إلى الإعلاميين أكثر من حاجتنا إلى أساتذة الإعلام..

ونحن بحاجة إلى التربويين والدعاة والخطباء الموهوبين أكثر من حاجتنا إلى أساتذة أساتذة التربية وأساتذة الخطاب..

نحن -بشكل عام- بحاجة إلى من يستطيعون استثمار هذه العلوم وتطبيقها أكثر من حاجتنا إلى الشهادات والخبرات والأبحاث والمؤتمرات..

وتحت ضغط هذه الحاجة؛ يجب ألا يتوجه إلى دراسة هذه العلوم إلا من كان طبعه وميله وهواه ومهاراته ومواهبه تجعله مستعدا لاستثمار هذه العلوم والاستفادة منها وتطبيقها وتحويلها إلى واقع!

فما أحسن اجتماع العلم والموهبة..

وإذا لم يكن هذا ممكنا، فحاجتنا إلى الذي تعلم هذه الأمور في خضم معارك المجتمع والنزاعات اليومية أكثر من حاجتنا إلى الذي قرأها في الكتب.. حاجتنا إلى التدريب والتأهيل أكثر من حاجتنا إلى التعليم والتدريس!

هذا أخوكم عبد الغني برادر لم يدخل كلية سياسة ولا أحسبه قرأ كتابا في التفاوض.. وهؤلاء إخوانكم المتخمين بالشهادات العلمية لا يحلمون بالجلوس مع وزير الخارجية الأمريكية بل مفاوضته!

ولو دققنا النظر لوجدنا أن أكبر الإنجازات قام بها من لم يتعلم شيئا في أبواب علوم النفس والاجتماع والسياسة، وإنما كانت فطرته وموهبته وطبعه قد جعلته القدوة والنموذج التي تدرس آلاف المرات في سائر هذه المجالات “العلمية”.

الأمر كله يشبه مسألة الشِعْر: إن الشاعر المطبوع ينطق بالشعر ولو أنه لم يعرف القراءة ولا الكتابة، بينما الذي هضم علم العروض لا يستطيع بهذا الهضم أن يكون شاعرا فضلا عن أن يكون شاعرا مُجِيدا مطبوعا..

فليبحث كل امرئ عن باب يحسنه، بدل أن يضيع نفسه وعمره، وقد يضيع الأمة كلها معه حين يتولى ما لا يحسن ولا يحسن ما يتولى!