مجاهد یحكي كیف جُرح في سبیل الله


حامداً ومصلیاً:

لاشك بأنّ القصة تحتل مكانة عظمی، واهتماماً كبیراً، عند الأفراد والجماعات، الصغار منهم والكبار، والمتعلمین وأنصاف المتعلمین، والذین يقرؤون والذین لا يقرؤون یمیل كل واحد من هؤلاء بطبعه إلی أن یصغی إلیها، ویعیش معها، ویرتبط بها، وفي كل الشعوب والأوساط تهتمّ جدّة الطفل أو والدته أو أخته أو المربیة المشرفة علی رعایته وتنشئته بالقصّة، وتقدمها له، كما تقدم وجبة الطعام سواء بسواء، فلا ینام إلا حین تلقیها علیه، وترددها علی سمعه المرّة بعد المرّة، ترغیباً كانت هذه القصّة أو ترهیباً، ولا یزال كل واحد منّا یحتفظ بهذه الصورة التي كانت تمثلها له الجدّة أو الأم أو الأخت أو المربیة.
وقد أدرك علماء التربیة في كل الأمم علی اختلاف طبقاتها الفائدة المرجوّة من ذلك، فأوصوا باستغلال هذه الظاهرة في تربیة الأطفال – منذ المرحلة الأولی – لیتفتح فیهم الوعي المبكر المنشود سواء كان العلم أو الجهاد أو أي فكرة منشودة، رغبة فیها منذ الآونة الأولی والإحساس بأنه كمال إنساني لابدّ منه.

فالمطلوب من شعوبنا المسلمة بل هو واجب شرعي أن یغرسوا في الجیل الجدید الوعي الإسلامي الصافي، ویربوهم بالفكرة الجهادیة الثاقبة، حیث ینقلوا لهم قصص أبطالهم ویعیشوا بها وینشئوا بها الأطفال والیافعین والناشئین.

ویحلو لي أن أنقل بعض الأقوال عن السلف الصالح حتى نفقه أكثر من هذا تأثیر القصص في تربیة النفوس، فهذا جنید رحمه الله قیل له ما للمریدین في مجاراة الأحكام؟

فقال: الحكایات جند من جنود الله تعالی، تقوی بها قلوب المریدین، قیل له: فهل في ذلك شاهد؟ فقال رحمه الله: نعم، قوله تعالی ( وكلاًّ نقصُّ علیك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك).

وكذلك حكي عن الشیخ الصالح الكبیر، العارف بالله الخبیر، أبي سلیمان الدراني رحمه الله قال: اختلفت إلی مجلس بعض القصاص، فأثر كلامه في قلبي، فلمّا قمت لم یبق في قلبي منه شیء، فعدت إلیه ثانیا فسمعته، فبقی في قلبي أثر كلامه في الطریق، ثم ذهبت فعدت ثالثاً، فبقي أثر كلامه في قلبي حتى رجعت إلی منزلي، فكسرت آلات المخالفات، ولزمت الطریق إلی الله تعالی.

ولمّا حكی للشیخ العارف الواعظ یحیی بن معاذ هذه القصّة قال: عصفور اصطاد كركیاً، یعني بالعصفور: القاصّ، وبالكركي: أبا سلیمان.

فجدیر بنا أن نعثر علی القصص سیما قصص المجاهدین الذین هم یقضون أیامهم في سبیل الله، ووقائعهم وقصصهم تشحذ هممنا، ولطالما یحضنا بأن ننفر في سبیل الله لو كنا نشكو الونی والركون وتخلفنا مع المخلفون، ولمّا نقدم في سبیل الله ….

ولأجل هذا الهدف سنحكي لكم عن قصّة المجاهد صلاح الدین وإخوانه الذین قد شاركوا في عملیة ثم جرح هو في سبیل الله.

قد اخترت حوار صلاح الدین عن الكثیرین الذین قد شاركوا في هذه الغزوة المباركة؛ لأنه سبقهم بشیئین:

أولهما: إقدامه وصولاته التي باتت محط الغبطة والتنافس للآخرین من أقرانه.

ثانیهما: نیله وسام الجراح في سبیل الله، الذي سیبقی له في نهایة المطاف اللون لون الدّم والریح ریح المسك.

ولقد كنت في انتظاره منذ أمد بعید حتى تُسنح لي فرصة الحوار معه، كي ننقل من فیه قصة فتح مبین رزقه الله المجاهدین علی ثری هلمند إبان سیطرة الصلیبیین علی وطننا الحبیب.

فاستجاب سماحته لنا وأتی إلي في یوم من الأیام، فوضعت المسجل لدیه و قلت لسماحته: حدثني قصة هذه الغزوة المباركة حتى أسجّلها ثمّ أفرغها من الشریط لقرّاء مجلة الصمود.

فإلی القصة:

لقد كنّا في إحدى الشعاب في ضواحي برافشة – هلمند، نظراً إلی ما كانت المدیریات والولایات في ید المحتلين والعملاء آنذاك.

وقد مضت – فعلا – من رئاسة الأولی لكرزاي علی سدة الحكم سنة بعد الانتخابات، وكانت الظروف صعبة وحرجة، فلمّا كنّا في تلك الشعاب، رأینا أن نبني لأنفسنا غرفة كي یحمینا شیئاً من برودة الشتاء القارص، فبنینا الغرفة لكن بقي سقفها، فوضعنا علیها خیمة، ووضعنا علیها الأحجار.

وههنا أخبرنا الأمراء بأن نأخذ أهبتنا للعملیة، ونحن لم نكن نعرف كیفیة العملیة، ووقتها.

الحنین إلی العملیة:

وكنت مريضا في ذاك الحین، حيث أحسّ بوعك شدیدٍ وحمی متعب، فاسترحت في ناحیة من تلك الغرفة الجدیدة، ولكن كان من قضاء الله وقدره حیث سقطت حجارة كبیرة من الجدار علی رجلي، فانخلعت رجلي – أي زال مفصلي من غیر كسر -، فقلت في نفسي لو أتعرج وغداً یوم العملیة لا یسمحون لي بأن أساهم في العملیة، فأخفیت الأمر عن القائد وكسوت حذائي بالضبط ولم أتعرّج والحمد لله لم یحسّ أحد بألمي ومعاناتي وساهمت في العملیة.

قصّة العملیة:

ثم تأهبنا وبتنا اللیلة في مكانٍ آخر غیر هذا المكان، وكنا في سیارتین وفي الغد جاء الشیخ القائد المولوي محمود رحمه الله وكانوا في سیارتین، یعني كنّا جمیعاً- في أربع سیارات.

فانتظرنا حتى الظهیرة حتى یتصل بنا عیننا الذي كان في وسط العدوّ.

والهدف كان قافلة العدوّ التي كانت وافدة من مركز هلمند إلی مدینة برافشة، حتى یأخذوا أمر برافشة ویسیطروا علیها ویهجموا من هنالك علی المجاهدین الذین هم موجودون في الشعاب.

فقسمنا القائد الشیخ محمود رحمه الله تعالی إلی مجموعتین، مجموعة مع القائد نفسه وهم ترصّدوا علی الشارع الرئیسي الذي كان الاحتمال الكبیر بأن یأتي العدوّ من هنالك، ومجموعة أخری التي كنت فیها مع القائد المفتي نصر الله رحمه الله، فترصدنا في إحدى الطرق، وكذلك بقي طریق آخر الذي ترصّد فیه مجموعة من الإخوة بقیادة القائد الملا محمد نعیم.

وانتظرنا ساعة حتى اتصل بنا القائد محمد نعیم بأنّ العملاء قد وصلوا إلینا ونحن بدأنا الاشتباك معهم، فأمرنا الشیخ المفتي نصر الله رحمه الله: هیا اركبوا بسرعة تجاه العملیّة فالعدوّ قد جاء!

فركبنا السیارات ولمّا وصلنا إلی الإخوة رأیناهم منغمسین في الحرب ویقاتلون كالأسود، ورأینا بأنّ العملاء قد نزلوا من سیاراتهم ویفرّون نحو الأشجار ویصعدون الجبال، فمضینا نلاحق فلول المنهزمین من موضع لآخر، فلمّا اقتربنا إلی بعض الأشجار وجدنا عمیلین قد اختبآ هنالك فأمرنا القائد المفتي نصر الله رحمه الله بأعلى صوت: فرمیت نحوهما ورمی الشیخ أیضاً نحوه ثمّ قال لنا هیّا اركبوا السیّارة فعجبنا من توكله رحمه الله؛ لأنّ العدوّ قد وضعوا سیاراتهم في ناحیة قبیل الجبال وأخذوا یصعدون الجبال، ومن هنا لم یكن لنا أن نقاتل معهم؛ لأنهم كانوا بعیدین من هنا وفي الوسط كان میدانا خالیاً فلأجل هذا أمرنا أن نركب السیارات ونقترب منهم.

فركبنا السیّارة وكان السائق الشیخ المقدام المولوي محیي الدین رحمه الله الذي كان مضرب المثل في البطولة والشجاعة وتقدّمنا إلیهم ولكنهم ضخّوا علینا وابل النیران بالبیكا، وقد كان الشیخ رحمه الله یقول: قد ظننت في هذه اللحظة بأننا سنستشهد جمیعاً ولكن كان من فضل الله حیث لم تصب الرصاصات السیارة ولا الأفراد.

وقد كنت حارس الشخصي للشیخ المفتي نصر الله رحمه الله دائماً فتقدمنا فوجدنا بأننا قد حاصرنا العدوّ ونرمي ونتقدم وفي هذا الحین كان أحد العملاء من فوقنا فناده الشیخ بأن يسلم نفسه، فظننا أنه یسلم نفسه لكنه كان یرید بأن یرمي إلی مجموعة من الإخوة فرمینا نحوه فسقط، فتقدمت نحوه لكنه لم یُقتل بعد، فقتله أحد الإخوة وجردته عن سلاحه وكان دیدني أن انتزع الأسلحة من القتلى وأحملها معي، ثم تقدمنا فرأی الشیخ ثلاث نفر قریباً منا لكنني ما رأیتهم فقال: ارمهم، فرمیناهم فسقط اثنان منهم وفرّ واختبئ آخر فبحث عنه الإخوة حتى قتلوه.

وفي هذا الأثناء وصل إلینا الشیخ المقدام القائد محمود رحمه الله وكان لابساً ملابس الأبیض، وكان متقدماً من جمیع المجاهدین لم یكن معه من السلاح إلا مسدس، وكان أمان الله رئیس العملاء في هذه الغزوة وأسره بعض الإخوة وكان معه فتی أمرد، فلما رآهما الشیخ أمر الشیخ رحمه الله بقتلهما، فقتلهما بعض الإخوة، ثم أخذنا نصعد الجبل وقد كان بعض الجنود منهم اختبأ علی قمّة جبل، فذهب أخ قبلنا نحوه، فقتله ونحن لم ننتبه أیضاً علی ذلك فأخذنا نصعد الجبل نحوه، فلما تقربت منه رماني وأصابت كتفي رصاصة فكبرت وسقطت، فعرفت أني قد جرحت فلم أتحرك حتى لا یرمي إليّ ثانیاً، إذ سمعت صوت المفتي یأمر الإخوة: احملوا صلاح الدین أظنه قد استشهد.

ولكنني رفعت نفسي وأوصلت بنفسي إلی الإخوة، ثم رأینا بأنه قد جاء المدد للعدو فانسحبنا من المعركة وقتلنا من العدو زهاء 46، ولقد أحصیت بنفسي القتلی الذین رأیتهم أنا بأم عیني 21 وجمیعهم كانوا 46. والحمد لله لم أحس بألم الجراح طوال الطریق.

ولقد فوجئنا بهذه العملیة بشیئین عجیبین:

عندما سقط الأخ الذي ذهب قبلي شهیداً بایع الأخ القائد الحافظ نعمت الله رحمه الله مع أخ آخر بالموت وقالوا لا نرجع حتى نأتي بجسد الشهید ولا نترك جسد شهیدنا لهم، فذهبا وحملا جسد الشهید – مع أنه كان سمیناً – والعدوّ یصب علیهم وابلاً من الرصاص حتى أتیا به.

والشيء الأعجب من ذلك أن الإخوة وجدوا الشهید رحمه الله قد احتلم! یشهد بذلك كل من كان في تلك العملیة.

والحمد لله رب العالمین الذي جعل في هذه الأمّة المحمدیة من خصه بالكرامات.

وهذا لعمري دلیل علی عظمة هذا الدین، وعظمة أبنائه، وصدقهم، وإخلاصهم لدینهم، وتفانیهم في خدمته.