طالبان وجها لوجه

د. محمد الصغير

 

تواتر عن رسول الله ﷺ قوله: “نضَّرَ الله عبدًا سَمِع مقالتي فوعاها، فبَلَّغها مَن لَم يَسْمعها، فرُبَّ حامل فِقْه إلى مَن هو أفقه منه… الحديث”، وفي رواية “نضَّرَ الله وجْهَ امرئ سَمِع مقالتي…”، فنضارة الوجه سمة أهل الحديث، وكرامة القرآن تظهر على أهله الذين هم أهل الله وخاصته، وأهل الصلاة يبعثون يوم القيامة غُرًّا مُحجَّلين من آثار الوضوء، وكذلك هيبة الجهاد تظهر على وجوه المجاهدين، وهذا أول ما وقع في نفسي عند رؤية وفد حكومة طالبان، بل شعرت بأنني أمام خلق جديد من خلق الله، ولم يقلل من هذه الهيبة رقة ملابسهم وعظيم تواضعهم.

كان في الوفد خمسة وزراء، وعدد من وكلاء الوزارات والمساعدين، وتحدث رئيس الوفد المولوي أمير خان متقي وزير الخارجية عن مسيرة جهاد الأفغان ضد القوات الغازية على مدار ثلاث وأربعين سنة متصلة، بدأت بدحر الروس وهزيمة الاتحاد السوفيتي، ثم عشرين سنة في حرب أمريكا ومعها أربعون دولة، بالإضافة إلى عشر دول تمدهم وتساعدهم، وما خرجت الجيوش الغازية حتى أحرقت أفغانستان، وشبه حال أفغانستان بحال بيوتها الطينية التي إذا اشتعلت في جنباتها النيران تأكل أخشاب السقف فقط، وتحول الطوب اللبن إلى الآجر الأحمر المقوَّى!

 

مع الشيخ حقاني

ثم دار حوار بيني وبين وزير التعليم العالي المولوي عبد الباقي حقاني، ودرجة المولوي هي أعلى المقامات العلمائية عند الأفغان، وقبلها درجة الملا أي المدرس المباشر لطلبة العلم (طالبان)، وهذا يدل على أن قادة الحركة حصلوا التجربة الميدانية والأستاذية الشرعية، وقد أهداني فضيلة الشيخ حقاني بعض مؤلفاته بالعربية مثل حفظ الأسرار وإفشائها في الشريعة الإسلامية، ومختصر السياسة والإدارة في الإسلام في مجلدين، وتركز حديثه على أن التعليم هو أولوية طالبان بعد التحرير، لأنها حركة علمائية في الأصل، جسمها الأعظم من طلبة العلم وقادتها من العلماء، وذكر أن أفغانستان فيها أربعون جامعة حكومية، ومئة وخمسون جامعة خاصة، موزعة على  أربعة وثلاثين ولاية هي كل ولايات أفغانستان، وكان للجامعة الأمريكية فرع كبير في العاصمة كابل، لكن أمريكا نقلتها إلى خارج أفغانستان مع الجلاء إلى دولة صديقة، فاتخذها الشيخ حقاني مقرا لوزارة التعليم العالي، وتقرر إنشاء جامعة عالمية في مكانها، تشمل كل الأقسام العلمية والأكاديمية والشرعية. وحول سؤال وجهه إليه أحد الوجهاء القطريين عن أهم ما تحتاج إليه الوزارة الآن، وما ينبغي أن توجه إليه الجهود عاجلا؟ قال الوزير: توفير حافلات خاصة لنقل البنات إلى المدارس والجامعات، لأن استمرار البنات في التعليم مع الرعاية والصيانة في مقدمة أولوياتنا!

 

أعداد الضحايا

ثم جاء الدور على معين (وكيل) وزارة شؤون الشهداء والمعاقين الشيخ عبد الحكيم حقاني الذي بيّن أن الحرب الأخيرة على ‎أفغانستان خلفت قرابة مليون يتيم منهم 150 ألفا من أبناء شهداء ‎طالبان، ومع ذلك فإن الحكومة تسوي في المعاملة بين أبناء شهدائها، وأبناء من قاتل مع أعدائها، وتعامل الجميع معاملة واحدة، وتفتح الوزارة باب كفالة اليتيم للمسلمين، لمن أراد جوار النبي الكريم ﷺ، الذي قال: “أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما”. رواه البخاري.

كما ترعى الوزارة مئتي ألف معاق من جراء الحرب، منهم عشرة آلاف بترت كل أطرافهم.

هذه عينة من محصلة حرب الدول المتقدمة على شعب أفغانستان، الذي استطاع بصبره وجهاده أن يتحرر من سطوتهم وتسلطهم، لكنه يعاني من عدم اعتراف أي دولة مسلمة بهم، في الوقت الذي تهرول قطعان المطبعين للاعتراف بمحتل لأرض فلسطين!!

وقبل أيام سألت مسؤولا كبيرا في دولة إسلامية مهتما بالشأن الأفغاني: لماذا لا تعترفون بحكومة أفغانستان التي دحرت الاحتلال؟ فقال: ليس لدينا مانع من الاعتراف، وكذلك بعض الدول العربية والإسلامية، لكن الكل ينتظر من سيعترف أولًا، حتى لا يتحمل تبعة المبادرة ومغبة الأولية.

وهذا يؤكد ما أصاب الأمة من وهن، وما تعانيه من تكالب الأمم، لكن الدول أيام، والأيام دول.