يا حبّذا الوطن مع الحرّية

صارم محمود

 

بعض الإخوة الأفغان من أهل الدين والعقيدة الذين تركوا البلد الحبيب لأسبابٍ ولم يصبروا على شدائد الجهاد، ثم اغتربوا إلى بلاد أخرى وجرّبوا عيش المغترب (حيث لا يُرقَب فيهم إلّا ولا ذمّة)؛ عادوا هذه الأيام متأثرين بالجوّ السائد على البلد، وقد رأيتُ ثلةً منهم واستمعت إلى انطباعاتهم، فوجدتهم كمن وُلد من جديد؛ أحرارا كما ولدتهم أمهاتهم، أبصروا النور بكل معنى الكلمة؛ لأن الحياة بدون الحرية والكرامة تساوي الموت (الحرية شمس يجب أن تشرق في كل نفس، فمن عاش محروماً منها، عاش في ظلمة يتصل أولها بظلمة الرحم، وآخرها بظلمة القبر). [المنفلوطي].

أن تعيش تحت ظلال الشريعة الوارفة، وأن تستنشق عبق الحرّية، وأن تغدو وتروح في طول البلاد وعرضها لا خوف عليك ولا حزن، وأن ترى البلاد تديرها أيدٍ نظيفة، وإخوان أحبّ إليك من نفسك، حيث لا قيود، ولا مطاردة، ولا تعقب، ولا ضغوط، ولا إهانة للأعراض، ولا هتك للحرمات، ولا سخرية، ولا ازدراء، ولا منٌّ ولا أذى؛ هذه سعادة والله ليس في الدنيا بعدها سعادة، ولعلّها عاجلة من تلك الآجلة (النعيم) التي لا عين رأتها ولا أذن سمعتها ولا خطرت على قلب بشر.

 

لقد جرّبت العيش خارج البلاد، فكم كان مرّاً وهواناً! وجرّبت العيش تحت ظلال الاحتلال، وكان صباراً وعلقماً! وها أنا الآن أجرّب الحياة تحت حكم الراية البيضاء، فكم أشعر بالعزة والفخر والكرم والاحترام!

القومية مرفوضة تمامًا، لكن حبّ الوطن أمر فطري، فما من رجل إلا ويشتاق إلى داره، وما  من ذي قلب حيّ إلا ويحن إلى بيته.

سألت يومًا أبي حينما كنت أدرس خارج البلاد -وكان أبي معي- يا أبي ألا تشتاق إلى الوطن؟

فردّ (بعدما أطلق زَفرةً): فلذة كبدي! إن الوطن له رائحة الأب والأم، فكيف لا يشتاق الابن إلى أمّه وأبيه. (وأضيفُ): فكيف بحال من يرى أمه وأباه مسربلين في القيود، مهانين في أيدي الأعداء!

فتذكّرت حينها ذلك المشهد الفريد من النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- حينما أخرجه قومه من مكّة؛ تلك الدار الحنونة التي وُلد بين أحضانها، وأنِس ببيوتها وجدرانها، وألِف وديانها وشعابها، فحملها في قلبه وترك قلبه فيها وارتحل، ثم التفت إليها ومدامعه الكريمة تسيل: (ما أطيبك من بلدٍ وأحبَّكِ إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك).

 

أخ مغترب من إخواني يحكي قصته حينما عاد إلى الوطن بعد سنين من البعاد، فيقول: بعدما اجتزت الخطّ الفاصل بين الحدود الإيرانية والأفغانية، كانت الراية البيضاء المنقوشة عليها كلمة التوحيد “لا إله إلا الله محمد رسول الله” بادية من بعيد، وعيناي كانتا معلقتان بها، وقلبي كان يهتزّ باهتزازها، وروحي تنتعش عندما كانت ترفرف يمنة ويسرة! ولولا ازدحام الآيبين والذاهبين لخررت أمام الله ساجدًا، وقبّلت راية بلدي الحبيب؛ راية الحرية؛ راية التوحيد؛ راية رُكِزت على أنقاض من الأشلاء والدماء التي سالت من إخواننا الشهداء الذين ضحّوا بأنفسهم لأجل تحرير بلدهم من لوث الكفر والشرك.

فرأيته اليوم يأخذ الراية ويقبّلها ثمّ لبسها وكاد يرقص طربًا وفرحًا. هذه راية مباركة؛ بل رمز لإخواننا الشهداء وتذكاراً لهم؛ إننا لا ننظر إليها كمجرّد خرقة، بل ننظر إليها كتمثال لعشرين سنة من التضحية والتفاني، ننظر إليها كخلاصة من المجد.

أن تعيش تحت راية تحبّها وتحبّك؛ وفي بلد ظلّت مقبرة للإمبراطوريات، وكنانة يخزي بها الله المتكبرين المتغطرسين؛ لهو سعادة عظيمة.

أنصح إخوتي المغتربين؛ النازحين إلى هناك وهناك، أن يعودوا إلى دارهم، ويبقوا فيها، ويعمروها بكدّ يمينهم وعرق جبينهم، ويصبروا على فقرها والشدائد التي فيها.