حقاني: العالم الفقيه والمجاهد المجدد (الحلقة 46)

آراء متضاربة وقتال في العاصمة

الساعات الحرجة في تحديد هوية النظام

 

بقلم: مصطفى حامد (أبوالوليد المصري)

 

– حقاني واصفًا ماحدث في كابل: اسْتسْلَمَت معظم كابول بالاختيار لأحمد شاه مسعود، فدخل المدينة واستولى على الأماكن الهامة بما فيها البنك المركزي ووزارة الخارجية ودار الأمان، والفرق العسكرية ومقار الميليشيات.

– وحكمتيار رتب مؤامرة مع وزارة الداخلية للاستيلاء على كابول لصالح “البشتون” قبل أن يستولي عليها “الفرسوان”!

– حقاني وقيادات لوجر اتفقوا على البقاء على الحياد وتحذير حكمتيار ومسعود بأنهم سوف يتدخلون ضد من يبدأ القتال ويفتح حمام الدم بين المسلمين.

– مولوي نظام الدين: لن نُدخِل الغربيين إلى بلادنا ولن نبادلهم فتح السفارات. سنقيم مجلسا للمشاورة والمناصحة مع الدول الإسلامية. لا نستطيع إقامة حكومة فليس لدينا أموال للموظفين.

– نصحت حقاني بمنع مجددي وأفراد حكومته من دخول كابول. وقلت له: من المفروض الآن إلقاء القبض على مجددي وقادة الأحزاب كلهم.فضحك حقاني قائلاً: أنت تريدنا أن نقتلهم!!

 

 

الأحد 26 إبريل 1992:

في الثامنة والنصف صباحًا جلسنا مع حقاني في غرفته في مركز الدبابات. قال حقاني يصف ما حدث في كابول:

استسلمت معظم كابول بالاختيار لأحمد شاه مسعود، فدخل المدينة واستولى على الأماكن الهامة بما فيها البنك المركزي ووزارة الخارجية ودار الأمان، والفرق العسكرية ومقار الميليشيات.

أما عن حكمتيار فإنه كان قد رتّب مؤامرة مع وزارة الداخلية (علمنا فيما بعد أنها كانت مع الجنرال رفيع وزير الداخلية الذي جاءه في طائرة هيلوكتبر وقابله في لوجر ورتّبا معًا برنامجًا مشتركا للاستيلاء على كابول لصالح “البشتون” قبل أن يستولي عليها “الفارسيوان”!).

(هكذا كان يفكر شيوعيو كابول وهكذا كان يفكر الأصولي الأكبر في تنظيمات بشاور الجهادية “حكمتيار” والقائد الميداني الأشهر مسعود. كانت المؤامرة تقضي بتسريب حكمتيار لأعداد كبيرة من رجاله إلى كابول بدون سلاح، وهناك تزوّدهم وزارة الداخلية بأسلحة خفيفة وأعلام الحزب لتعليقها فوق المقار الرسمية والعسكرية والإعلان عن استسلام كابول لحزب الإسلامي حكمتيار).

وقد تم ذلك بالفعل ولكن لم يكن عسيرًا على أحمد شاه مسعود التخلص بسرعة من هؤلاء المهرجين.

وعندما أذاع الحزب عن سقوط المواقع الحيوية في العاصمة بين يديه كان قد تمّ بالفعل طرده من كل مكان. فأخذ الحزب يذيع بيانات كاذبة عن تقدّمات وهمية لقواته في كابول وأخذت أجهزة اللاسلكي توجه أوامر حكمتيار لقواته في كابول بالتقدّم الوهمي من مكان إلى آخر، في حين لم يكن له قوات على الأرض في تلك الأماكن حسب ما أفاد القادة الميدانيون حول كابول.

في اجتماع حقاني مع قيادات لوجر اتّفقوا على البقاء على الحياد مع تحذير الطرفين حكمتيار ومسعود بأن القادة الميدانيين سوف يتدخلون ضد من يبدأ القتال ويفتح حمام الدم بين المسلمين يجعلهم ألعوبة في يد الدول الخارجية.

 

الإثنين 27 إبريل 1992:

راديو طهران تكلم صباحًا عن قتال لمدة ساعتين في القصر الجمهوري بين قوات مسعود وقوات حكمتيار انتهت بانتصار الأول. وصوت أمريكا سعيد بهزيمة الزعيم الأصولي مقابل الزعيم “المعتدل”.

– بين جماعتنا من العرب دارت تعليقات أنقل بعضها من مذكرتي لذلك اليوم:

كنا نتكلم عن أن “دوستم” هو الذي أمر الطيران بقصف جماعة حكمتيار حتى يقطع خيوط مسعود مع باقي المجاهدين فيقع أسيرًا في أيدي تحالف يتسيده “دوستم” الذي يسيطر على المليشيات، والأقرب إلى القوات الشيوعية المتحالفة معهم.

كلا الشخصين مسعود وحكمتيار طموح حتى الموت للحكم. كلاهما صعد نجمه بطريق انتهازي مختلف. مسعود مقاتل بدأ بالصعود من أول السلم بمجهود ومثابرة وتحالفات، بداية من فرنسا وصولًا إلى الروس ثم دوستم والجيش، وأحيانًا نظام كابول.

أما حكمتيار فتحالف مع باكستان ووضع نفسه في خدمة استخباراتها (isi )، ثم تحالف مع الجنرالات شاه نواز تاناي وأسلم وطنجار وضباط وزارة الداخلية في كابول وعلى رأسهم الجنرال “رفيع”. لكن مسعود وصل بسرعة نتيجة لذكاء نظام كابول في اختيار الطرف الذي يستسلم له. فقد اختاروا التسليم لمسعود و”الفارسيوان” لعلمهم أن البشتون وهم أغلبية السكان لم يقبلوا بحكم الفرسوان لهم، وستنشب لذلك الحرب بين المسلمين على أساس عرقي، بشتون/فارسيوان.

أما حكمتيار فإن طابعة المغامر يدفعه إلى التركيز على الضربة الخاطفة في الوقت الحرج، حتى يخطف من الآخرين ناتج عملهم وجهادهم. وهكذا سحب قواته من معظم المناطق وركّزها حول كابول حتى يخطفها قبل مسعود والآخرين، ونسي أنّ أفغانستان الآن لا يمكن أن يحكمها أي انقلاب أو أن تُأخَذ خطفا، لأن الجميع قوي جدًّا ومتأهب، والعاصمة لا تحكم سوى نفسها.. وبصعوبة.

يبدو أنّ مسعود قد أحكم قبضته على العاصمة إلى حد كبير. وبهذا تكون آمال حكمتيار قد تبخّرت تقريبًا، خاصة إذا تكرّس الوضع القائم اليوم في كابول.

– حكمتيار يزداد عزلة برفضه حكومة بشاور وإصراره الهستيري والفاشي على رفع “الرايات الخضراء” على كل كابول.

ـ برهان الدين رباني أصدر اليوم بيانًا بأنّ مسعود أحكم قبضته على كابول وأنّ أي تحرك معاكس سوف يجابه بالقوة.

– أمس أعلنت جماعة حكمتيار سيطرتها على مدينة جرديز(!!) وأشاعوا أنهم اعتقلوا عبد الرشيد دوستم. إنها سلسلة أخرى من الأكاذيب التي تبثها جماعات حكمتيار.

 

الثلاثاء 28 إبريل 1992:

تحرّكنا صباحًا من جرديز متوجهين إلى “لوجر” في رحلة أصبحت روتينا يوميًا. الهدف هو متابعة الأحداث المتلاحقة في كابول. ومواقف الأطراف المختلفة منها، خاصة حقاني ومن حوله من قيادات في لوجر.

هناك منطقة زراعية تعقد فيها جلسات الشورى، إلى جوارها مبانٍ حكومية تستخدم كاستراحات للوفود. قابلنا هناك الجنرال صافي الذي قدّم لنا موجزًا لآخر التطورات فقال:

بعد نصف ساعة من الحديث اللاسلكي بين مسعود وحقاني، قال مسعود:

ـ أوافق على وقف إطلاق النار ولكن حكمتيار يحشد قواته فهل إذا خرق الهدنة تقفون إلى جانبي؟

فأجابه حقاني: نحن لا نقف مع أحد قبل أن تجلس مع حكمتيار وتوقعان اتفاقا مكتوبا نشهد عليه جميعا، ومن خرج عنه سيقف كل العلماء والقادة ضده.

قال مسعود: سأتصل مع الأستاذ رباني وأتشاور معه وأحدد معكم موعداً ومكانا للمقابلة ولكن لا أستطيع الاتصال به حاليا.

(تعليق: كان واضحًا أنّ مسعود يماطل. فهو لا يشاور أحدًا في قرارته الحيوية، لا رباني رئيس التنظيم الذي يتبعه شكليا، ولا حتى مجلس الشورى، الذي كعادة مجالس الشورى “الإسلامية” يفعل ما يقرره الزعيم مع إبداء ملاحظات تجميلية).

حكمتيار موجود في لوجر على مقربة من مكان شورى القادة الميدانيين وقد أعلن لهم رفضه لحكومة مجددي، ولصلاحيات مسعود في كابول، ولكنه يوافق على وقف إطلاق النار.

( تعليق: وافق فقط على ما فيه مصلحته بصفته المهزوم في معارك كابول)

القادة الميدانيون قرب كابول يقولون أنّ ضحايا القتال في كابول يفوق الحصر والمهاجرون جيوش جرارة.

مجددي في بيان إذاعي يعلن إعطاء الأمان لحكمتيار عند وصوله كابول.

(تعليق: لم يكن لمجددي أي قدرة على إصدار أي أمر. ومازال هو شخصيًا في بيشاور بينما كابول يسيطر عليها مسعود ودوستم وقوات للجيش).

وصل حقاني وكنا في انتظاره، فبادرنا معاتبا إيانا في مرح على ذهابنا بالأمس إلى منطقة “محمد أغا” حيث قصفتنا الطائرات. وقال ضاحكا: إذا قتلتم في ذلك اليوم فلستم بشهداء. لماذا ذهبتم؟ إذا كثرتم سواد أحدهم فإنكم منهم.

بعد تناول طعام الغداء، توجه حقاني إلى جهاز اللاسلكي لمواصلة اتصالاته ومعظمها مع مسعود في كابول، وبعضها مع قيادات بشاور.

ذهبنا نستطلع آراء مولوي نظام الدين فيما يجري من أحداث، وهو الذي يجهر دومًا بوجهات نظر لا يجرؤ غيره على قولها علنا. معبرا عن بعض آرائه تلك قال مولوي نظام الدين:

ـ مسعود وحكمتيار كشفا عن معدنهم الحقيقي الذي كنا نعلمه سابقًا ولكن الحقيقة الآن واضحة للناس جميعًا.

الزعماء السبعة “قادة الأحزاب ” مرفوضون ولن نضعهم في مناصب. فهم خانوا الأمانة في المال والسلاح والاتصال مع الدول الأجنبية، وسوف نلغي الأحزاب لأنها مدخل للأجانب وسبب لانقسام المسلمين.

ـ سوف نحل النزاع القائم في كابول بالطرق الإسلامية، وعلى كل طرف أن يستبعد الشيوعيين من صفوفه.

ـ اشتباكات كابول بين مسعود وحكمتيار كانت لأجل الكرسي والجاه وليس لأجل الإسلام.

ـ تلك الاشتباكات أظهرت للجميع الضعف العسكري لحكمتيار على عكس ما كان يدعي

ـ لن ندخل الغربيين إلى بلادنا ولن نبادلهم فتح السفارات.

ـ سنقيم مجلسا للمشاورة والمناصحة مع الدول الإسلامية.

– لست الآن واليا على خوست، بل لدينا مجلس شورى ولا نستطيع إقامة حكومة، فليس لدينا أموال للموظفين، ومن يعمل معنا حاليا يكون متبرعاً لفترة محدودة، وهذا يعرقل عملنا.

ـ سنعمل على إلغاء الأحزاب في الولايات الجنوبية الخمس أولا.

قبل الظهر وصل مجددي إلى “بولي تشرخى” شرق كابول. وكان الجنرال أعظمي في استقباله. يرافق مجددي قافلة هائلة من السيارات حركتها باكستان معه وتضم حرسه الخاص، ويتراوح عددهم بين مئة إلى مئتين شخص، ثم هناك مئات السيارات تحمل آلاف الأشخاص بإهتمامات متنوعة، منهم المخبرين الباكستانين ومنهم صحفيين، وأتباع جماعات إسلامية، خاصة الجماعة الإسلامية التي اعتبرت نفسها من المنتصرين في تلك الحرب. وكان هناك القليل من العرب المتحمسين جاءوا بدافع الفضول.

 

– كنت قد نصحت حقاني بأن يتكاتف القادة الميدانيون في منع مجددي وأفراد حكومته من دخول كابول. وقلت له أنه من المفروض الآن إلقاء القبض على مجددي وقادة الأحزاب كلهم.

فضحك حقاني: أنت تريدنا أن نقتلهم!!

فقلت بحنق: أقل شيء أن تضعوهم في السجن. وإلا فإن أفغانستان وأنتم ستدفعون الثمن غاليا.

ضحك حقاني ولم يعلق.

اختطف أحدهم مسدس زميلنا صالح إلهامي في أحد دكاكين كلنجار. أثرنا ضجة لاستعادته. و المساعي مستمرة.

 

الأربعاء 29 إبريل 1992:

صبغة الله مجددي الرئيس الجديد لدولة أفغانستان التي عادت (إسلامية!!) يعلن في إذاعة كابول العفو الشامل عن أركان الحكم الشيوعي السابق (!!) ويدعو الضباط والموظفين العودة لممارسة أعمالهم كالمعتاد. كما وجه الشكر إلى أمريكا والسعودية وباكستان وصدر الدين آغا خان (!!) ـ زعيم الطائفة الإسماعيلية ـ وبطرس غالي السكرتير العام للأمم المتحدة لمساعدتهم “للجهاد!!” الأفغاني.

[تعليق: قد نفهم مغزى تقديم مجددي شكره لأمريكا والسعودية وباكستان ولكن لماذا تقديم الشكر لصدر الدين أغاخان؟؟، أوبطرس غالي؟؟ أليس في ذلك إسرافا في تقديم التشكرات؟؟].

باكستان تعلن اعترافها بالحكومة الجديدة ـ وإيران ترسل معونات غذائية إلى مزار شريف. (لماذا ليس إلى كابول؟؟)

جلست مع مجموعتنا العربية نتبادل الأحاديث الغاضبة حول مجددي وحكومته. تحدثنا عن ضرورة الجهاد ضد ذلك الأحمق الذي تولى الحكم. وفضح نفسه من بيانه الأول، لم يكن عندي شك أن القتال سوف ينشب لفتح كابول مرة أخرى.

(بالفعل فتحها طالبان في اكتوبر 1996 حتى أغلقها الأمريكان مرة أخرى في حرب2001)

قابلنا حقاني بعد أن أجرى اتصالاته على المخابرة. فقال تعليقا على ما يجري:

لقد أقام مجددي حكمًا مشتركا مع الشيوعيين في كابول. وقد وافق حكمتيار على ما يجري بلا قيد أوشرط. وأعلن ذلك ممثله في كابول ورئيس اللجنة السياسية للحزب الإسلامي في بيشاور.

لقد سألتهم في الحزب الإسلامي: لماذا قاتلتم في كابول وقتلتم الآلاف هناك؟، لقد صَعَّدْنا الموقف مع مسعود من أجل استبعاد الميليشيات والشيوعيين، فقال مسعود لنا (إن تلك هي مطالب حكمتيار)، فرددنا عليه أنها مطالب الشرع ومطالب الجميع هنا. وبعد ذلك توافقون أنتم فجأة بلا قيد أو شرط أو مشورة معنا.

أما سياف فهو موافق على ما يحدث وأعلن ذلك بلا مواربة.

منصب رئيس الوزراء تم إعطاؤه لحزب إسلامي حكمتيار الذي اختار من بين مساعديه “الأستاذ فريد ” كى يتولى المنصب.

– راديو لندن سأل قادة من الحزب الإسلامي عن العلاقة التي ستكون بين الأستاذ فريد كرئيس للوزراء في الحزب الإسلامي، وبين أحمد شاه مسعود الرجل الأقوى في كابول وهو من الجمعية الإسلامية، والقتال كان دائرًا بينهم حتى وقت قريب. فكان الرد: إن الرجلان هما من قومية الطاجيك وسوف لن يختلفا (!!).

(تعليق: نلاحظ الآن الأحزاب الجهادية وقادتها الكبار يسارعون في التحالف مع الشيوعيين، وتصنيف الناس حسب عرقياتهم ـ وكل ذلك كان من أشد المحرمات التي كانوا يجرمونها في سنوات الجهاد).

– في بداية اللقاء سألت حقاني: متى تبدؤون الجهاد؟؟ فقد توافرت شرائطه، فحكومة مجددي منافقة ويجب قتالها.

لكنه لم يتحمس للكلام في الموضوع وسحبني من يدي بعيدًا عن المجلس. كانت معنوياته منخفضة كأكثر ما رأيت. قال لي بأن مجلس الشورى الجديد في كابول والمكوّن من خمسين شخصا، هو واحد منهم ولكنه لم يذهب. ولكنه قد يذهب إلى كابول لمقابلة مسعود. ثم غادرني متوجها إلى جهاز المخابرة لمحادثة قطب الدين هلال، من حزب إسلامي حكمتيار.