استهداف العلماء والبُعد الحقيقي للجريمة

د. نائل بن غازي

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

لقد استشهد الله العلماء على أعظم مُشهد عليه وهو توحيده سبحانه، فقال تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18]؛ وذلك لعظيم المكانة التي حازها العلماء في شريعة الرحمن، فهم من شعائر الله واجبة الحفظ والتعظيم، وهم الموقعون عن الله رب العالمين، يأخذون الناس إلى حيث مراضي الله تعالى، ويقيمون بهم صروح الدين العظيم، ويمضون بهم إلى حيث لواء الشريعة النقي عن كل دخن وخلل، ينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، قَالَ ﷺ: (يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ) [أخرجه البيهقي، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 1/53 ح248]. فالعلماء الربانيون صمام أمان الأمة، وهم مصدر أمانها وأمنها، وهم دليل استقامتها إلى حيث سبيل الهداية، وهم لبنات بنائها، وقواعد ثباته، يقيمون في الجيل الكتاب والسنة، ويربونه التربية الإيمانية الجهادية، ويقوّمون فيه الرأي ثباتاً على صحيح الإيمان وكريم الأخلاق، فلم يكن غريباً حيازتهم هذه المكانة في الشريعة الإسلامية، وانعكاسها على سياسة الأمراء واختياراتهم.

 

ولذا كان العلماء على الدوام محط استهداف غارات التغريب والبدعة القبيحة، وذلك لأن سورهم أمتن الأسوار وأعلاها وأصلبها؛ وانهياره أو ضعفه أو خرقه –عياذاً بالله- له مآلات خطيرة على استقرار البيئة الإيمانية، وكشف ظهرها، وتجرئة الخصوم عليها، وعبث المبتدعة بها. ولم يجد الأعداء على طول مسيرة التاريخ الإسلامي مطيةً أقنع وأنفع وأجدى لتمرير مخططاتهم الخبيثة من ظهور أهل البدع، ولم يجد رؤوس المبتدعة والمنافقون طريقةً أكبر شراً، وأعظم ضراً من استهداف العلماء اغتيالاً، واستحلال دمهم ضلالاً. فلم يكن مستهجناً أو مستبعداً أن تتجه قوافل الاستهداف المنظم من أعداء الأمة لعلماء الإمارة الإسلامية – أعزها الله- طمعاً من المارقة والبغاة والكفرة أن يحدث فراغُ غيابهم حالةً من الفوضى السانحة لتمرير المخططات الغربية باستنزاف أفغانستان وإشغالها عن رسالتها السامية في إرساء العدل وإقامة الشريعة، وإثبات الذات بقدرة المسلم المجاهد على إقامة صروح الإمارة الإسلامية، واستغنائها عن الغزاة، وتحقيق استقرار أمني واقتصادي تتهاوى معه مطامع الغزاة المهزومين، وتغور معه تطلعات المارقين والبغاة المأجورين، وتنتشر معها دعوات الخرافة، ومطامع التقسيم.

فحسمت أمريكا أمرها باستهداف الإمارة الإسلامية، ومحاربتها بوضاعة شرسة عبر وكلائها في المنطقة، فصادرت أموال الإمارة، وفرضت عليها حصاراً اقتصاديا ظالماً طمعاً في تثوير الشعب الأفغاني المسلم على أمرائه الذين بذلوا كل غالٍ ونفيس لحمايته، وصيانة حقه. سبقتها الإمارة الإسلامية –توفيقاً من الله- بخطوة فعاشت آلام الناس، ولم تتمايز عنهم، وأظهرت لهم إخلاصاً منقطع النظير في بياض اليد وعفتها، وتسارع العلماء للبيعة والمباركة، والنصرة والتأييد. ولما كانت دولة الإسلام عميقة في النفس الأفغانية كعمق الدولة المأجورة في البلاد المسلوبة، كان لابد من استهداف هذه الدولة العميقة واستنزافها، فأمرت أمريكا أدواتها في المنطقة بوجوب التحرك، والوجهة: “بوابة العلماء” ففي الإقليم المتمرد ” بنجشير” تحرك المأجورون لافتعال حالة من فوضى السلاح تأتي على الآمنين، وتستهدف العلماء الربانيين، فيما اختار الخوارج الأهداف الأسهل فقاموا بسلسة تفجيرات تهدف إلى اغتيال العلماء في المساجد، دون التفات لحرمتها أو حرمة الدم المسلم الحرام.

وقد أشارت كثير من التقارير الاستخباراتية أن هذا الحلف تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وتذكي ناره، ومرحلته الأولى: استهداف العلماء، لأن حقيقة الحرب الخفية الآن مع الغرب في أفغانستان قاعدتها: استهداف منظومة التلقي لدى الإنسان الأفغاني، والتي تحافظ على صبغته الإيمانية والأخلاقية، ولا يحصل هذا بغير ضرب صمام الأمان المتمثل بالعلماء الربانيين، فبهم تُحفظ الملة، وتُصان المنظومة الأخلاقية، وتُعزز القيم الأفغانية الأصيلة الرافضة للأعراف الدخيلة، وتنتهي عند حدودهم حملات السلخ الممنهج للمنظومة الغربية الساقطة.

 

إن الإمارة الإسلامية –أعزها الله- قد استجابت لأمر الله بالجهاد وإقامة الشريعة بعد التمكين، وظننا بالله –تعالى- أن ينصرها، وأن يرد عنها كيد الإجرام الذي تديره أمريكا وينفذ أجنداته الخوارج وعملاء الغرب مجتمعين. قال الله تعالى: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)﴾ [إبراهيم: 46،47].

رحم الله شهداء الإمارة الإسلامية من العلماء الربانيين، وأعلى درجتهم، وبلغهم الفردوس الأعلى من الجنة، وأعظم الله أجرنا في مصابنا فيهم، وأخلف الله الشعب الأفغاني والأمة الإسلامية خيراً منهم والحمد لله رب العالمين.