حقاني..العالم الفقيه والمجاهد المجدد (49)

طاجيكستان في ظلال حقاني: من جاور إلى ما وراء نهر جيحون

 

بقلم: مصطفى حامد (أبوالوليد المصري)

 

– مولوي سرْوَرْ جان: رسالة من قاعدة جاور إلى مجاهدي ما وراء النهر، بدروس فقهية على المذهب الحنفي، ودروس إيمانية في ظلال قاعدة جاور.

– “أولاد خوست” كانوا سببا مباشرا لاستنفار قوى الشر والفتنة في كابل لمنع مشاركتهم في جهاد طاجيكستان.

– كان الجميع يقولون: إن الشيخ أصيب بطلقة الرصاص مصادفة وبدون تَعَمُد. ولكنني كنت متشككا وما زلت.

جاءت نحو الطائرة العسكرية غادة حسناء تتهادى متبرجة، وهي تضع على رأسها خماراً حريرياً يغطي الجزء الخلفي من رأسها. وبرفقتها رجل عجوز ومعه ثلاثة من الجلاوزة الغلاظ الشداد، من الرجال القبليين أصحاب الشوارب الستالينية.

كان علينا أن نتدبر أمرنا بنقل الأسلحة عن طريق البر، وأن نجتاز بشحنتنا الثمينة مهالك طريق طويل انتشرت عليه عصابات وميليشيات ومتقاتلين من كل جنس ولون وحزب.

انضباط الشباب العرب قليلا كالعادة. والروحانيات الجهادية مرتفعة كالعادة أيضا. والشهداء يتساقطون يوميا كنتيجة منطقية لهذا المشهد العاطفي الفاقد للعقل والمنطق. كنت أشفق على تلك الطاقات النادرة من ذلك الهدر المتعمد.

ذهب أبومعاذ التركي برسالتي، وجلس منتظراً رد مولوي حقانى، الذي قال له بالنص: (إن ما تطلبونه هو المستحيل الأكبر في أفغانستان حاليا).

 

مولوي سرْوَرْ جان ــ رحمه الله ــ هو خال مولوي جلال الدين حقاني. وفى رحلتنا الجهادية الأولى إلى أفغانستان عام 1979 كان هو مُتَرْجِمُنا ومرشدنا في خطواتنا الجهادية الأولى. فهو مجاهد منذ اليوم الأول ضد النظام الشيوعي، والاحتلال السوفيتي إلى يوم الفتح المبين في إبريل 1992.

وكم كانت فرحته عظيمة عندما ذهبت إليه في قاعدة جاور طالبا منه المشاركة في تدريب شباب المجاهدين من طاجيكستان (من بلاد ما وراء النهر ذات العمق الهائل في وجدان وتاريخ الأفغان).

كان مولوي جلال الدين حقاني هو الذي اقترح انضمام مولوي سرور جان إلى معسكر التدريب عندما شرحت له حاجتنا إلى عالم مجاهد لتعليم هؤلاء الشباب أحكام دينهم وجهادهم وعلوم الفقه والسيرة النبوية، وأن يدرسهم المذهب الحنفي الذي هو مذهب أهل بلادهم، حتى لا تحدث قطيعة أو صراع بينهم وبين شعبهم، كما حدث في العديد من بلدان العرب.

 

جاور.. مدرسة لتخريج “طالبان”، قادة المستقبل:

– كان مولوي سرْوَرْ جان يدير في قاعدة جاور مدرسة دينية، هو مدرسها الأول ومديرها. وتضم المدرسة أبناء الشهداء الذين قدَّموا أرواحهم في معارك جاور وخوست وغيرها. كان الأطفال يقيمون في جاور، ويعودون إلى أسرهم في أيام الإجازات. وكانوا يشاركون في بعض أعمال قاعدة جاور من تنظيف وإعداد الطعام وتخزين الماء. والكبار منهم يشاركون في أعمال الحراسات، ولهم برامج تدريب عسكري خاصة بهم. في بعض تلك الدروس كان مدربهم هو مولوي سرور جان، الذي يشرف على جميع نشاطاتهم في جاور. ويعطيهم دروساً في تاريخ الجهاد الإسلامي وجهاد أفغانستان. كانت قاعدة جاور وقتها نموذجا للأكاديمية العلمية والجهادية لتخريج قادة أفغانستان المستقبليين وكوادر حركة طالبان الجهادية الباسلة. كان في أفغانستان الكثير من أمثال تلك المدارس التي يشرف عليها علماء من عمالقة الجهاد. ولكن جاور اكتسبت شهرة عالية نتيجة ملاحمها الجهادية التي لا تنسى، لأنها حُفِرَت عميقا في وجدان سكان المنطقة وشعب أفغانستان عموما.

جاور كانت ـ قبل الغزو الأمريكي ـ نموذجا شائعا في أفغانستان للمدرسة الدينية الجهادية، ولكنها مدرسة لا نظير لها في العالم الإسلامي طولاً وعرضاً.

ولهذا كانت أفغانستان بلدا لا نظير لها في العالم الإسلامي.

 

مولوي سرور جان في أكاديمية “الفاروق”:

إستقر الاتفاق مع مولوي سرور جان على أن يحضر ثلاث مرات أسبوعيا إلى معسكر الفاروق (توأم معسكر جهاد وال)، من أجل إعطاء المتدربين الطاجيك دروساً فقهية على المذهب الحنفي. ودروساً إيمانية وتاريخية من وحي جهاد أفغانستان ومعارك قاعدة جاور ومنطقة خوست. وكان أيضاً إمامهم في الصلاة أثناء تواجده في المعسكر. [فالحروب نكسبها في المساجد قبل أن نكسبها في ساحات القتال] ــ وأيضا العكس صحيح ــ عندما استولى غربان الفتنة على منابر المسلمين، كانوا مفاتيحاً للفشل المزمن.

كان تأثير المعسكر عظيما على نفسيات الشباب. خاصة دروس مولوي سرور جان. وكذلك تأثير المدربين الذين كانوا مثالا نموذجيا للشباب المسلم المجاهد. وكانوا خليطا من المجاهدين السابقين الأفغان والعرب. وتجنبنا في المعسكر الخوض في أي قضايا خلافية أو مذهبية، وقد التزم المدربين العرب باحترام الآخرين. وكانوا جميعاً على خلق عظيم وحماس لتلك المهمة الجهادية الجديدة.

– عند انتهاء الدورة الأولى وعودة المتدربين إلى تجمعات المهاجرين الطاجيك -حيث تعيش أسرهم- كانوا موضع دهشة وإعجاب المجتمع الطاجيكي المهاجر. لقد عادوا وهم شباب أخرين، سلوكيا وبدنيا وأخلاقيا. حتى تنافست العائلات على تزويجهم. وأثاء سيرهم في المدينة (قندوز أو طالقان) كان الناس يشيرون إليهم قائلين بإعجاب: (هؤلاء هم أولاد خوست).

– كانوا شباب مجاهدين من بلاد ما وراء النهر، وفي نفس الوقت هم أولاد خوست، الذين افتَخَر بهم آباءهم في معسكرات المهاجرين الطاجيك. شيخهم وعالمهم هو مولوي سرْوَرْ جان من مؤسسي الجهاد ضد الحكم الشيوعي في أفغانستان . ومدير معسكرهم هو عبد الهادي العراقي، من أبطال التصدي للعدوان الأمريكي على أفغانستان. ومدير التدريب هو الشهيد أبو العطاء التونسي نجم عمليات مطار خوست عام 1990، والذي أدخل الكمبيوتر إلى برامج الراجمات التي أسكتت المطار. ومدربي اللياقة البدنية أبطال الرياضة، هما الشهيدان، من فلاحي محافظة الشرقية في مصر: الملاكم أبو دجانة “الباشا”. ومعه أبو تميم لاعب الكرة ــ رحمهما الله ــ وغيرهم من الحجاز واليمن، ومعهم أصحاب الخبرة من شباب المدربين الأفغان الرائعين.

– أولاد خوست كانوا سبباً مباشراً لاستنفار قوى الشر والفتنة في كابل بقيادة وزير الدفاع “مسعود”، لمنع مشاركة أولاد خوست في جهاد طاجيكستان. فاستطاع ومعه بلطجية من داخل حزب النهضة الطاجيكي من تشتيت أبناء خوست في مهام ثانوية إدارية. حتى تمكنوا من القضاء على تأثيرهم. ثم دخل حزب النهضة في سباق استسلام للنظام في العاصمة الطاجيكية دوشنبه، وأعاد المهاجرين إلى بلدهم، بلا ضمانات، تحت رعاية مؤسسة التواطؤ العالمي (الأمم المتحدة).

 

استشهاد مولوى سرْوَرْ جان.. مصادفة ؟؟

رغم أنه كان رجلا واحدا، إلا أنه كان العالم الوحيد في المعسكر، وأقدم مجاهد في كل المنطقة، بل من ضمن مؤسسي الجهاد، وأقرب معاوني مولوي حقاني منذ الدقيقة الأولى للجهاد في ولاية باكتيا، وأفغانستان عموما. كانت مكانته داخل المعسكر وفي نفوس المتدربين لا تضاهى.

للأسف فلم يستمر وجوده في معسكر التدريب طويلاً. لقد ذهب مولوي سرور جان لحضور عرس في منطقة قبلية بعيدة. وفي غمرة الإحتفال وصخب الطلقات المنهمرة إبتهاجاً، أصابت إحداها الشيخ الجليل، وتسببت في تهشم عظام الحوض. فقضى عدة اشهر في رقاد وألم مبرح، حاول فيها ألا ينقطع عن تلامذته الصغار في قاعدة جاور، ولكنه لم يتمكن من العودة إلى دروسه في معسكر الفاروق. وافتقده شباب الطاجيك كثيرا. ولم يلبث أن توفي الشيخ تاركا فراغا كبيرا في ساحة الجهاد وألما لايزول من نفوس تلامذته ومحبيه.

كان الجميع يقولون أن الشيخ أصيب بطلقة رصاص مصادفة وبدون تَعَمُد. ولكنني كنت متشككا وما زلت. فأحداث كثيرة قبل وبعد ذلك أثبتت أن مثل تلك الحوادث مع مثل هؤلاء الأشخاص في مثل تلك الظروف التي كانت سائدة وقتها، تكون حوادث مخططة بعناية وذكاء. والأشد براعة فيها أن تبدو حادثاً عرضياً.

 

خوست الطائرة الأولى بعد الفتح

بعد طول انتظار أرسل مسعود أول طائرة لنقل الأسلحة والذخائر من مطار خوست على ضفة نهر شمل، إلى طالقان على ضفة نهر جيحون.

كان الاستنفار الأمني على أشده خوفا من حكمتيار ـ أما الجمهور في خوست فكان يعلم بدور معسكر العرب “جهاد وال” في تدريب المجاهدين الطاجيك، ويعلم أن مطار خوست القديم قد أصلحه العرب لنقل أسلحتهم وذخائرهم للجهاد في طاجيكستان. أثار ذلك فخر وحماس الجمهور وإعجابه الكبير. فكنا نُعَامَل في خوست معاملة خاصة كأبطال في مجتمع يعشق البطولة.

طبعا كان لنا أعداء لا يستهان بهم وهم رجال الميليشيات السابقون، ومحبي النظام الشيوعي السابق. وكانوا لا يجرؤون على الظهور أو إظهار ما في نفوسهم. فقط كانوا يترقبون الظروف المناسبة.

كان وصول الطائرة حدثا شعبيا في خوست. فمنذ سنوات لم تهبط أي طائرة في المدينة. والجميع يعلم الآن أن هذه الطائرة جاءت لأغراض جهادية، وكان ذلك مبعث اعتزاز وفخر في المدينة التي تنفرد في كل أفغانستان بذلك الدعم الكبير لمجاهدي ما وراء النهر.

كانت الطائرة من طراز (32 AN) وهو نفس النوع الذي كنا نقاومه في خوست وتم تدمير العشرات منه بمدفعية المجاهدين.

كنا في انتظار الطائرة في المطار. وهبط طاقمها متوجها على الفور إلى “المقبرة” الرئيسية للطائرات العسكرية التي تحطمت أثناء سنوات الحرب، وتقع في منتصف الحافة الجنوبية للمدرج. كنت أراقب الطيار وتعبيرات وجهه المتجهم الذي يكسوه شارب ضخم من الطراز”الستاليني”. وما أن وقف الطيار على أطلال المقبرة حتى أطلق تنهيدة من أعماق قلبه المحترق، ونظرات الأسى المنكسر تطل من عينيه.

فأدركت أنه “كان هنا” ومر بتلك المأساة، أو فقد فيها أصدقاء. كان الطيار ينظر بعداء لكل من حوله، فلم يعد لدينا شك في أنه شيوعي. وتوصل رجال أمن خوست إلى نفس النتيجة. فأخذوه بعيدا عن الأعين، بالذات أعين الشباب العرب، وحجزوه في أحد مباني المطار حتى ينتهي تحميل الطائرة.

كنا نظن في البداية أن حمولة الطائرة هي عشرون طنا، ولكن طاقمها أخبرنا أنها حمولة خمس أطنان فقط، وللاحتياط فإنهم يُحَمِّلُونها بأربعة أطنان.

كنا قد وضعنا بضاعتنا منذ أيام إلى جانب “المقبرة الجوية” وكان علينا أن نقرر فورا ماذا سنرسل وماذا سنبقي عندنا حتى تأتي طائرة أخرى.

مساعدو الطيار أشرفوا على تقدير الأوزان وتوزيع المواد داخل الطائرة حتى تبقى متزنة وثابتة أثناء الإقلاع والهبوط. كان الجميع يعمل ويساعد بحماس لنيل الثواب، فيما عدا الطيار بالطبع.

تجهزت الطائرة للإقلاع ولكنها انتظرت ولم تتحرك ونحن نتساءل عن السبب. جاءت الإجابة من الحافة الجنوبية للمطار، من إحدى القلاع الطينية العملاقة التي كانت سابقاً قاعدة للميليشيا وحراسات المطار. فمن هناك جاءت نحو الطائرة العسكرية غادة حسناء تتهادى متبرجة، وهي تضع على رأسها خماراً حريرياً يغطي الجزء الخلفي من رأسها. وبرفقتها رجل عجوز ومعه ثلاثة من الجلاوزة الغلاظ الشداد من الرجال القبليين الأصحاء، أصحاب الشوارب الستالينية أيضا. أوصلوا الغادة الحسناء إلى سلم الطائرة، فصعدت إليها.. ثم أقلعت الطائرة.

كنا ننظر بعضنا إلى بعض في دهشة، وننظر إلى رجال أمنيات خوست، فظهر لنا أنهم كانوا على علم مسبق بما يحدث، لأنهم لم يندهشوا مثلنا ولم يسألوا. أنا أيضا لم أسأل، وقلت في نفسي “إن الأرض الأفغانية مليئة بالأسرار”.

 

بعد أكثر من شهر جاءت طائرة ثانية وأخيرة. وكان علينا بعدها أن نتدبر أمرنا بنقل الأسلحة عن طريق البر، وأن نجتاز بشحنتنا الثمينة مهالك طريق طويل انتشرت عليه عصابات وميليشيات ومتقاتلون من كل جنس ولون وحزب. كان رجال حكمتيار يضغطون علينا مطالبين بتلك الأنواع من الذخائر تحديدا لأنهم يعانون من العجز الشديد فيها لأجل “جهادهم” في كابول ضد مسعود.

ولكن من حسن حظنا أن رجال إدارة خوست كانوا متعاطفين جدا مع مشروع طاجيكستان بل ومتحمسين له. وكذلك كان القادة الميدانيون السابقون، وبالتالي القبائل حولنا بوجه عام، مع استثناءات قليلة. ساعدنا ذلك على البقاء في موقع الصمود أمام ابتزاز “فايز محمد”ــ القائد لدى حكمتيار ومسؤول حزب إسلامي في خوست ـ الذي كان لا يمل من القول بأن تلك الذخائر “لن تفلت من يد مسعود”.

وللأسف كان قوله صحيحا بشكل من الأشكال.

 

نقل الأسلحة براً إلى طاجيكستان

– استأجرنا شاحنة أفغانية ضخمة، من ذلك النوع المزود بمجنبات خشبية عالية جدا، حتى تستوعب أكبر قدر ممكن من البضائع. رتبنا فيها الذخائر بعناية لتجنب التلف أو الانفجار. كنا قد نقلنا كل ما لدينا من مواد إلى قلعة “تختة بيك” الكبيرة في مخزنين كبيرين، لتسهيل عملية التحميل من خوست.

الطرق وقتها كانت في قمة التخريب، حتى يصعب القول بأن هناك طرق، فيما عدا استثناءات قليلة. كانت الطرق في شمال أفغانستان أفضل نسبياً منها في الجنوب، وكذلك درجة تدمير القرى كانت أقل. ومن درجة تدمير القرى وخراب الطرق يمكن قياس درجة ولاء أو معارضة الوسط السكاني للمحتلين.

شاحنتنا مرت بسلام حتى نهاية خطوط حكمتيار على حدود كابول، وهناك اعترضها أحد قادة حكمتيار الذي صادر الشحنة كلها وأعاد إلينا الشاحنة فارغة.

– أقمنا الدنيا ولم نقعدها، واتصلنا بكل من يمكن أن يفيدنا الإتصال بهم. وذهبت مع عبد الهادي إلى منطقة ” تشار آسياب” على حافة كابول والتي يتمركز فيها فريق أبو معاذ الخوستي، ومعهم أبو الشهيد اليمني وهو من كبار مؤيدي حكمتيار وأول من حذر قبل سنوات من انحرافات مسعود وشبهه “بأتاتورك”.

كان منظر الشباب العرب هناك مؤثرا، فمعظمهم من الشباب الجدد صغار السن. كانوا غاية في الحماس والرغبة في التضحية. يعيشون في مبنى عسكري قديم فَقَدَ كل مقوماته كمبنى سوى الجدران. واستعاضوا عن الأبواب والنوافذ بتعليق بطاطين عسكرية قديمة.

انضباط الشباب العرب كان قليلا كالعادة. والروحانيات الجهادية مرتفعة كالعادة أيضا. والشهداء يتساقطون يوميا كنتيجة منطقية لهذا المشهد العاطفي، الفاقد للعقل والمنطق. كنت أشفق على تلك الطاقات النادرة من ذلك الهَدْر المتعمد.

كان أبو معاذ عاتبا علينا لأننا تركنا الجهاد في منتصف الطريق قبل أن يصل غايته بإقامته حكم إسلامي خالص. ونحن كنا لا نقبل مجاهدة حكومة مختلطة “شيوعية إسلامية”، بجهاد مختلط “شيوعي إسلامي”.

لم أتحاور مباشرة مع الشاب الرائع “أبو معاذ الخوستي”. فقد كان حياؤه يمنعه من مجادلتي مباشرة، ربما لفارق السن. وهو شاب مع شجاعته العظيمة كان أيضا على خلق عظيم وحياء. فكانت الحوارات تدور بين وسطاء. وأحيانا كان عبدالهادي العراقي هو وسيطنا في الحوار مع تلك الجماعة التي ربطتني مع القدماء منهم محبة وثقة ميدانية عالية وعميقة.

بالنسبة لأسلحتنا المُصَادَرَة،عمل عرب حكمتيار (جماعة أبو معاذ الخوستي) كمحور ضغط قوي لمصلحتنا، بالإضافة إلى محاور ضغط أخرى. إلى أن تمَكنَّا بعد عدة أسابيع من استعادة جميع ما فقدناه، فيما عدا صاعق واحد لصاروخ كاتيوشا.

كنا نسجل تفاصيل كل شحنة ونحتفظ بنسخة عندنا ونرسل نسخة أخرى إلى حزب النهضة الطاجيكي في مدينة طالقان شمال أفغانستان.

استأنفت الشاحنة سيرها، وكان حزب النهضة يتابعها في مناطق مسعود وباقي حكام كابول، من الذين يبادلون العرب كراهية حتى الموت.

عبرت الشاحنة “ممر سالانج” بخير. ولكن بعده بقليل وفي محافظة “بغلان” اعترضها قائد من الطائفة الإسماعيلية واحتجز الشاحنة بما فيها.

استغرق ذلك وقتا أطول حتى نبحث عن حلفاء لهذا الرجل للضغط عليه. فاكتشفنا أنه صديق لعدونا اللدود عبد الرشيد دوستم، الذي يقاتله إخواننا العرب على خطوط كابول (وقاتل العرب ضده في جلال آباد 1989 ــ وفي خوست 1990 ثم جرديز 1991 ــ وفي شمال أفغانستان أثناء الحرب الأمريكية عام 2001).

أثناء الأسابيع التي انقضت حتى الآن في رحلة شاحنة المتاعب تلك، تبدلت التحالفات داخل الصراع الأفغاني، وتحول دوستم وحكمتيار إلى حلفاء في مواجهة مسعود وزعماء كابول.

أي أن شاحنتنا وقعت مرة أخرى في قبضة حكمتيار بشكل غير مباشر. والمشكلة هنا أن دوستم عنيد ومتقلب ولا يتخيل أحد أن حكمتيار يمكنه ممارسة ضغط عليه، خاصة وأن التحالف بينهما يقف على حافة العداء وفوق بحر من الدماء المسفوكة في كابول. توقعنا أن اللجوء إلى حكمتيار لن يفيدنا كثيرا، خاصة وأن رجاله قد صادروا نفس الشحنة قبلاً.

كتبت رسالة إلى مولوي جلال الدين حقاني وكان موجودا فى جلال آباد يدير منها مفاوضات وساطة بين الأطراف المتقاتلة في كابول ـ وكاد يفقد حياته أثناء جولة مكوكية تهدف إلى وقف القتال بين سياف وحلفائه العرب من الشمال الأفريقي، وبين “حزب وحدت” الشيعي، وفَقَدَ مولوي جلال الدين في تلك المحاولة واحداً من حرسه الخاص على يد حزب وحدت.

في رسالتي إليه شرحت أزمة شاحنة الأسلحة وأين انتهى بها المطاف في ولاية بغلان. حمل الرسالة إليه رجل المهام المستحيلة “أبو معاذ التركي”، وهو من ديار بكر في تركيا، ويجيد الفارسية والعربية، وله هيكل ضخم مع نظارة طبية تعطيه مهابة أكاديمية، ثم قُدرَة روحانية شفافة، وغضبة تركية تظهر عند الحاجة، فتطيح بأي ممانعة مهما كانت صلبة.

كان لديه القدرة وقتها في التردد بين المعسكر وبيشاور. يتنقل بحرية ويُعْتَقَل أحيانا في الطريق، ولكنه لا يعدم حيلة في الخروج من الورطة. وقد جربت ذلك بنفسي معه عندما تسللت في شهر رمضان إلى بيشاور لزيارة عائلتي سراً، فاعتقلتنا الشرطة في الطريق. لكن مع أبو معاذ، ظنت الشرطة أننا أوزبك من أفغانستان، وكادوا يصطحبوننا إلى السجن. ولكن آذان المغرب في رمضان، ثم روحانيات أبو معاذ حركتهم قليلا.. وفي الأخير غضبة تركية ساحقة جعلت دورية الشرطة تسرع في التخلص منا وإطلاق سراحنا فورا.

 

ذهب أبومعاذ برسالتي إلى جلال آباد، وجلس كي يستمع إلى رد مولوي حقانى عليها، الذي قال له بالنص: (إن ما تطلبونه هو المستحيل الأكبر في أفغانستان حاليا).

هذه الجملة بالكامل سمعها حكمتيار وهو يدخل إلى الغرفة، فسأل عن الخبر. فقص عليه حقاني قصة الشاحنة.

وفي حركة شهامة نادرة المثال قال حكمتيار إن المسألة بسيطة وأنه يعرف ذلك الرجل في بغلان جيدا وسيتصل به اليوم للإفراج عن الشاحنة وما فيها.

ضحك حقاني وخاطب صاحبنا التركي قائلا: (هذه إحدى كرامات مشروعكم في طاجيكستان).

وبالفعل وفّى حكمتيار بوعده، وحصلت الشاحنة على حريتها ووصلت إلى مجاهدي النهضة في طالقان وسط فرحة غامرة.

أرسلنا شاحنة ثانية بخط سير أقصر. كان علينا العبور بالشاحنة من خطوط حكمتيار الأمامية في كابول، وعندها يستلمها حزب النهضة ويوصلها إلى مطار كابول. ومن هناك تنقلها طائرات مسعود إلى محطتها النهائية في طالقان.