حقاني..العالم الفقيه والمجاهد المجدد (الحلقة 51)

أ. مصطفى حامد (أبوالوليد المصري)

 

■ ذهبنا لتهنئة مولوي حقاني بتوليته منصب وزير القبائل. فضحك قائلا إنه لم يسمع بذلك إلا مني الآن، وأن أحداً لم يخبره حتى هذه اللحظة، كما أنه لم يستشر في ذلك القرار.

■ أثبتت الأحداث أن مولوي خالص كان يتحدث مع مولوي حقاني منذ سنوات، وكأنه يقرأ أسطراً من أحداث الغيب.

■ حقاني كان ينام فوق الجبل، حيث يستطيع رؤية منطقة بجرام ومنطقة جبل السراج والقرى الريفية المؤدية إلى كابل.

■ أمريكا كانت تنتظر حقاني بصواريخ “كروز” أثناء عقد قران في جاور.

■ لاحق الأمريكيون حقاني حتى تمكنوا من إصابته بالطائرات أثناء صلاة التراويح في رمضان وهي الضربة التي أدت إلى استشهاده في نهاية المطاف.

الجيش الباكستاني يحاصر حقاني في بيته، وحقاني يقاوم الاعتقال.

■ رفض مولوي حقاني الاستسلام للقوات الباكستانية. وحَمَلَ أسلحته الشخصية، وهي عبارة عن كلاشنكوف ومسدس روسي. وقال: (لن أستسلم لهم، سأخرج وأقاتل إلى أن أقتل هنا).

 

حقاني وزيراً

في صباح اليوم التالي، سمعنا من إذاعة كابل نبأ تعيين مولوي جلال الدين حقاني وزيراً للقبائل من طرف الإمارة الإسلامية. وجاءنا أحد المجاهدين في المضافة التي نبيت فيها وهو متهلل الوجه، ليزف إلينا النبأ الذي كان مفاجأة غير متوقعة.

قررنا الذهاب لتهنئة مولوي حقاني في بيته. فتحركنا وقت الضحى، وبادرته بالتهنئة وباركت له تولي منصب وزير القبائل. فضحك قائلا إنه لم يسمع بذلك إلا مني الآن، وأن أحداً لم يخبره حتى هذه اللحظة، كما أنه لم يسْتَشَر في ذلك القرار.

ومعلوم أن (وزارة الحدود والقبائل)، هي وزارة سيادية هامة في أفغانستان ودائما كان يشغلها رجال أقوياء ومهمّين، قاموا بأدوار سياسية وعسكرية هامة نظراً للدور المتميز الذي تقوم به القبائل في الحدود المشتركة مع الدول المجاورة، وتحديداً باكستان التي تعتبر أهم تلك الحدود.

ومع ذلك، فإن وجهة نظري وقتها التي لم أبحثها مع أحد، هي أنّ ذلك المنصب لم يكن متطابقا مع مؤهلات وتاريخ وإنجازات مولوي جلال الدين حقاني باعتباره القائد الجهادي الأهم، وصاحب الإنجازات الكبرى في القتال ضد السوفييت والشيوعيين. كنت أعتقد أنه كوزير دفاع سيكون في موقعه المناسب والأفيد لأفغانستان. وعندما وصل بي التفكير إلى هذه النقطة تذكرت قول مولوي يونس خالص متحدثا مع مولوي جلال الدين في ميرانشاه قبل سنوات من انسحاب السوفييت، وكانا يتحدثان عن مستقبل أفغانستان بعد الفتح والانتصار؛ إذ قال مولوي يونس خالص إنه بعد فتح أفغانستان لن يوافق على تعين حقاني وزيراً للدفاع. فسأله مولوي حقاني منزعجاً: لماذا؟

فأجاب يونس خالص ضاحكاً: لأنك لا تتوقف عن القتال، وستظل تجاهد حتى النهاية، وسوف تتقطع أنفاسنا خلفك. وضحك الرجلان العظيمان.

 

وجاء الأسبوع الأول من يناير (1997م) لتتحقق رؤية مولوي يونس خالص، بعدم تعيين مولوي جلال الدين في أهم المناصب التي تحتاج أفغانستان لأن يشغلها حقاني تحديداً، وهو منصب وزير الدفاع.

 

نبوءة مولوي خالص تلاحق مولوي حقاني

أثبتت الأحداث أن مولوي خالص كان يتحدث مع مولوي حقاني قبل سنوات في ميرانشاه وكأنه يقرأ أسطراً من أحداث الغيب.

في معارك شتاء 96 ــ 97 دحر حقاني حملة مسعود و دوستم على كابل في وقت قياسي، وباحترافية عالية، وكانا يتخبطان أمامه كمجموعة من الجهلة المبتدئين. حتى اضطرت الأمم المتحدة إلى إرسال مراقبيها إلى مدخل ممر سالانج عند قرية جبل سراج، مع تحذيرات دولية للإمارة الإسلامية (غالبا عبر وزارة الدفاع في كابل) بعدم عبور ممر سالانج. ويبدو أن حقاني لم يكن على علم بذلك، لأنه ظل مصراً على عبور سالانج واحتلاله من المدخل إلى المخرج. وبالمثل كان حرص وزارة الدفاع على إبعاده عن الطريق الواصل إلى سالانج عبر المناطق الزراعية. ووضعوه بعيداً في طريق صحراء (ده سبز) التي يعبرها الطريق القادم من شرق كابل إلى قاعدة بجرام في ولاية كابيسا. ثم يصل الطريق إلى مدينة (جول بهار) على مدخل جبلي مؤدي إلى وادي بنشير.

بدأ عزل حقاني إلى المحور الصحراوي (ده سبز) بعيدا عن (سالانج) في وقت غير مناسب بالمرة. حيث كانت كابل مهددة بهجوم من تحالف الشمال بقيادة أحمد شاه مسعود و دوستم.

 

حملة مسعود الثانية على كابل

حملة مسعود الأولى على كابل بدأت في ديسمبر96 وانتهت على يد جلال الدين حقاني في السابع من يناير(1997).

ولم تقم وزارة الدفاع بإجراءات مناسبة للدفاع عن كابل من جهة الشمال. خاصة تلك الثغرة التي دخل منها مسعود عند قرية جبل السراج. فقد تركوا الأمر هناك كما كان، بدون أي تغير يذكر. وكان الممر شبه خال، إلا من مواقع حراسة قليلة وضعيفة لحركة طالبان، لم تستطع مقاومة البرد أو غارات رجال مسعود التي تميزت بقدر كبير من الخداع واستغلال حسن ظن رجال طالبان في الوسط المدني المحيط بهم. مما زاد من جرأة رجال مسعود عليهم، وتجنيد مزارعين وتسليحهم للعمل ضد طالبان.

قوات طالبان حتى ذلك الوقت كانت أشبه بمليشيات قروية ساذجة وضعيفة التدريب والانضباط ولكنها متحمسة للغاية ومثالية في تصوراتها للعالم الموجود خارج قراهم التي نشأوا فيها.

في خريف (1997) تعرضت حركة طالبان إلى عملية غدر هائلة داخل مدينة مزار شريف التي ظنوا أنهم آمنون بداخلها بعد فرار عبد الرشيد دستم الرجل القوي الذي كان يتحكم فيها. وكان أحد مساعديه من الجنرالات قد مهد لطالبان دخول المدينة بدون قتال، فيما يبدو أنه كان كميناً مدبراً سلفاً. وتفاصيل تلك الخيانة المريعة أسفرت عن مقتل الآلاف من مسلحي حركة طالبان داخل مدينة مزار شريف.

وتمكنت مجموعة لطالبان من تأمين مطار المدينة، وسهلت نقل عدة آلاف من جثث القتلى نقلت جَوَّاً إلى مطار قندهار. وحفرت لهم مقابر بشكل عاجل في منطقة صحراوية أطلقوا عليها شهداء (دَشْت ليلي). ويقال أن عدد الجثث التي تكدست هناك كانت ثلاثة آلاف.

“الأخضر الإبراهيمي” مندوب الأمم المتحدة لأفغانستان كان في زيارة لقندهار في ذلك الوقت فأمر الملا عمر باصطحابه إلى شهداء دشت ليلي لمشاهدة الجثث المكدسة هناك تحت لهيب الشمس، وإلى جوارها كمية من الأسلحة التي استخدمت ضدهم في مزار شريف. وجميعها أسلحة من دول في الجوار أو دول أوروبية، عسى أن تتحرك الأمم المتحدة لاتخاذ إجراء ما. ولكن هذا لم يحدث أبدا. وظلت الأمم المتحدة تدعو إلى الهدوء، وتسخر إمكانياتها لدعم تحالف الشمال.

بعد فترة استقال الإبراهيمي من منصبه، ولكن أمريكا استدعته لمساعدتها بعد احتلالها أفغانستان فعاد مرة أخرى لتقديم خدماته للمشروع الأمريكي في ذلك البلد.

 

موقع متفوق لمسعود

مسعود في شمال كابل بعد ضربته المفاجئة، وبعد انهيار موقف الطلبة في مزار شريف، كان موقفه قوياً وحصل على دعم جيد من السكان من مناطق شمال كابل، خاصة محافظتي (بروان و كابيسا) وحتى الطريق الزراعي الذي يخترق القرى ويصل إلى كابل كان السكان فيه أقرب إلى تأييد مسعود.

تحركات طالبان الدفاعية كانت سيئة للغاية وارتكبوا فيها جميع الأخطاء الممكنة، وحتى تلك غير المتخيلة مثل استبعاد حقاني عن منطقة ولاية (بروان) التي تؤدي إلى مدخل ممر(سالانج) عند قرية جبل السراج. أما الطريق إلى ممر(سالانج) فقد تراكمت فيه فوضى عسكرية نادرة المثال من مجاهدي جلال آباد، من مختلف التنظيمات، ومعهم كافة الأسلحة الثقيلة التي استطاعوا جرها إلى المنطقة. وكان يقودهم مولوي “عبد الكبير” وهو شخصية محترمة في حركة طالبان ولكنه لا يمتلك أي خبرة عسكرية.

ومع ذلك فإن حقاني في منطقته المحصورة تلك ما بين قوات مولوي عبد الكبير وقوات مسعود التي أمامه وعلى ميمنته في مزارع العنب وقاعدة بجرام المشهورة، استطاع أن يحقق عِدَّة نجاحات مهمة.. ولكنه تمهل أمام المزارع التي يجهل رجاله مسالكها، وكان في حاجة إلى وقت أطول لدراسة المنطقة التي لم يعتادوا على مثلها في باكتيا.

وكأن ذلك لم يكن كافيا لتكبيل حقاني، من وجهة نظر وزارة الدفاع في كابل، بقيادتها الجديدة التي تتميز بشجاعتها النادرة، في تاريخها الناصع في القتال ضد الشيوعيين والسوفييت، إلا أنهم كانوا يفتقدون إلى الخبرة في قيادة المعارك الكبيرة، أو القتال في المناطق الجبلية. واعتزازهم الكبير بأنفسهم منعهم من التشاور أو التعاون مع الحلقات الأخرى، التي هي من خارج نطاقهم الإقليمي والقَبَلي.

لأجل هذا كانت وزارة الدفاع، طوال فترة حكم طالبان الأولى، خالية من المآثر، ولم تحقق إنجازات تذكر، بل العكس، عاصرت (أو تسببت) أثناء فترة قيادتها، هزائم كبيرة كان يمكن تجنب أكثرها لو أنها تمتعت بشيء من المرونة وسعة الصدر.

عموما جاءت مرحلة بعد التقدم الكبير لحركة طالبان في السيطرة على البلاد، انتابت فيها الحركة روحاً من الاستعلاء الذي دفعوا ثمنه غاليا جدا، حتى تراجعوا عنه لاحقاً.

(عن ذلك نُسِبْ إلى مولوي خالص، وآخرين، قولهم: نحن وحركة طالبان مثل شخص يرتدي ثوباً من الصوف الثقيل في فصل الصيف، إن ظل يرتديه تآكل جلده، وإن خلعه كان عاريا بين الناس).

 

دروس دامية من معارك كابل

حقاني في منطقته الخطيرة والعقيمة عسكريا والمحاطة باحتمالات الكمائن في كل شبر منها، تمكن من توسيع رقعة سيطرته والتقدم إلى الأمام، وكأن في نيته -على ما يبدو- أن يصل إلى مدينة (جول بهار) المدخل الطبيعي لوادي بنشير المستعصي بتضاريسه الوعرة ورجاله الأشداء.

وكأن نجاح حقاني رغم ظروفه الصعبة، كان من الصعب استساغته على وزارة الدفاع وخبرائها غير الخبراء بالحرب. فأرسلوا خمسمئة مقاتل من قندهار ليشاركوا حقاني في نفس المنطقة ويعملوا بشكل مستقل عنه، ومرتبطين مباشرة بالوزارة في كابل.

فوجئ حقاني في منطقته بهذا الكم الهائل من الشباب الأغرار الشجعان والمغرورين وهم يعيثون في المنطقة بأعمال لا يدري عنها شيئاً ولا يستشيرونه فيها، رغم أنه رسمياً قائد تلك المنطقة.

فَهِم البعض الرسالة المبطنة من وراء ذلك، و بالتأكيد فهمها حقاني أيضا، ومفادها: (أنه لا مكان لك هنا، انصرف لو سمحت). فهل كان هناك من ينظر إلى حقاني بصفته الوظيفية”!!” كوزير قبائل جاء ليتطفل على مهام وزير آخر يتولى حقيبة الدفاع؟ ومن هنا يكون منصب الوزارة قَيْداً على حقاني، أكثر منه تكريماً له. فحقاني ــ بوضوح ــ كان أهم جنرال مقاتل أنجبته أفغانستان في فترة الحرب مع السوفييت، بل ربما في كل تاريخها.

لم يلبث حقاني أن أخذ قواته وتكفل بالدفاع عن الطريق الصحراوي الذي يصل شرق كابل مع مطار بجرام الاستراتيجي، ويسمى طريق (ده سبز). ويبدو أن وزارة الدفاع ارتاحت لذلك، لأن حقاني أصبح بعيدا بما يمثله من نجاح وخبرة، لا تمتلك وزارة الدفاع أياً منها.

لم تلبث أن هُزِمَت قوات جلال آباد بقيادة “مولوي عبد الكبير” بعد هجمات صغيرة من قوات مسعود. وسحبوا معهم -لحُسن الحظ- معداتهم الثقيلة. تاركين مدخل (سالانج) متوجهين صوب جلال آباد مباشرة.

في ذلك الوقت ظن الجميع أن كابل سوف تسقط في يد قوات مسعود ودوستم لولا أن ما تبقى من قوات طالبان مع المتطوعين المسلمين الذين شعروا بالخطر الذي يهددهم أيضا، فصمدوا للدفاع عن الطريق الزراعي المؤدي إلى كابل.

بينما ثبت حقاني للدفاع عن طريق الصحراوي مع رجاله من باكتيا وأغلقوا المدخل بقوة. وكان عبارة عن سلسلة جبلية تعترض الطريق الذي يشقها الطريق من المنتصف. فخاض حقاني ومجاهدي قندهار معارك بالدبابات في المنطقة بين ذلك المدخل وقاعدة بجرام. بعض تلك المعارك كان شجاعا إلى درجة الجنون. حتى أن دبابات طالبان عندما تفرغ ذخائرها كانت تهاجم دبابات تحالف الشمال لتصطدم بها وجهاً لوجه. ولكن ذلك لم يحدث لأن الدبابات الشمالية كانت تَفِرْ بسرعة من تلك المناطحة الفولاذية، لأنهم كانوا يعرفون أن في داخل الدبابة التي تقابلهم مجاهد يفضل أن يحترق بداخلها عن أن يسلم نفسه. مثل تلك الروح الاستشهادية في الدبابات وصمود طالبان والمتطوعين المسلمين، أبقى كابل تقاوم، فثبتت خطوط الدفاع عنها، إلى أن جاءت قوات الاحتلال وتغيرت المعادلة بفعل الطائرات الأمريكية القاذفة وطائرات الهليكوبتر المقاتلة.

{يمكن القول أن بقاء قوات مسعود في جبل السراج والعمق الزراعي شمال كابل، كان خطوة أولى هامة لنجاح الغزو الأمريكي لأفغانستان. ولا شك أن وزارة الدفاع في كابل تتحمل جانبا هاما من تلك المسؤولية الخطيرة ــ وكأن من استبعد حقاني عن معارك كابل، كان -بدون قصد- يمهد لهزيمة أفغانستان في الحرب الأمريكية القادمة، ونجاح الغزو الأمريكي، بإهدار أغلى الخبرات العسكرية التي اكتسبها قادة المجاهدين الكبار، الذين تبعثرت قواتهم لعدم وجود ميزانية للإنفاق عليها، رغم أهمية خبراتها التي نادرا ما يتحقق مثلها لشعب من الشعوب}.

 

إلى نقطة البداية من جديد: مع حقاني فوق الجبل

قضيت مع حقاني بعض الأيام في موقعه القيادي في (ده سبز). كان يضع أحد المدافع في ساحة صحراوية واسعة. ومدفع آخر في أحد الانعطافات الجبلية الواسعة نسبيا وإلى جانبه عِدَّة خيام للمجاهدين. أما حقاني نفسه فكان ينام فوق الجبل، حيث يستطيع رؤية منطقة بجرام ومنطقة جبل السراج والقرى الريفية المؤدية إلى كابل. وكان يقضي أوقات طويلة يراقب ويتحدث أحيانا على المخابرة مع إخوانه في الصحراء أسفل الجبل. ولم تكن اتصالاته كثيفة كما كان الحال في الأيام الخوالي عند فتح خوست مثلاً. كنت أقول في نفسي أن هناك من لا يريد الانتصار لذلك كبلوا القائد الذي يستطيع أن ينتصر ولديه الخبرة لفعل ذلك.

أما الجهل والغرور فقد امتلك ساحة كابل كاملة، سواء في العمل العسكري أو في إدارة العاصمة نفسها، بما تسبب في حوارات ساخنة بين حقاني مع إدارة كابل، التي كانت حسب قوله تعمل كبلدية لتجميل كابل قبل تسليمها إلى مسعود كغنيمة باردة “!!”. قال حقاني: (إنهم لا يهتمون بتجهيز المدينة للدفاع، قدر اهتمامهم بتزيينها وإصلاح الأضواء والأرصفة).

كانت فرصة رائعة وغير متوقعة أن أستعيد بعض الذكريات من الأيام الخالية الجميلة، وقت كان حقاني قائدا ميدانيا شاباً، يقود قواته بإيمان وفدائية محققاً النصر تلو الآخر، متحملاً المشاق والآلام والخيانات وشهادة الأبطال. في ذلك الوقت البعيد أتيحت لنا الفرصة أحيانا لنتحدث طويلاً في أمور الجهاد والحرب في أفغانستان. وكشف لي الكثير من نواحي الغموض التي كنت أقف أمامها تائها. الآن ونحن فوق الجبل ومعه مخابرة وحارسه الشخصي، والصديق الفدائي (علي جان)، جلسنا نتكلم في نفس الموضوعات لكن من زواية جديدة. ورغم أن السوفييت قد هُزِموا والنظام الشيوعي قد سقط، وأن الإمارة الإسلامية أعلنت، إلا أننا بسبب ما نراه من مخاطر وتهديدات، وقصور وإهمال، نشعر بإن الأمور غير مستتبة.

كانت تلك آخر فرصة أتيحت لي لقضاء مثل ذلك الوقت مع ذلك القائد الكبير والشخصية النادرة. وقضينا الليل في أعجب صورة قرب قمة الجبل.

كان المجاهدون قد حفروا عدة حفر طولية على سفح الجبل، وكأنها مشروع لبناء مقابر. تمددت في واحدة منها والأخرى في اتجاه القمة تمدد صديقي المصري عثمان. وفي الحفرة على يميني تمدد مولوي حقاني، ومن بعده الحارس “علي جان”. ووقف اثنان من الحرس مستيقظين.

كنت أشعر بالألم لهذا المنظر. وأتخيل أن الجهاد قد بدأ من جديد، حتى في شرائط النوم والطعام وموضوعات الحديث. تماما كما كان في البدايات الأولى للجهاد. هذا رغم أن العاصمة كابل أسفل منا قد أصبحت في يد المجاهدين، والإمارة الإسلامية قد اُعْلِنَت. والشيوعيون هربوا من البلاد مذعورين. ومع ذلك أشعر كما يشعر حقاني أننا مازلنا في البداية. وأن المشوار مازال طويلاً.. وطويلاً جداً.

 

أمريكا ومحاولة استمالة حقاني

الأمريكيون في تمهيدهم للحرب على أفغانستان حاولوا استمالة مولوي حقاني إلى جانبهم.

(الحوار التالي منقول عن مقالة في مجلة الصمود رقم177 بقلم أنس جلال الدين حقاني تحت عنوان أبي صانع المجد والتاريخ):

“.. وقال له وفد مفاوض: (أنت رجل وطني والأفغان يعتمدون عليك.. قاتلت الروس ولك تاريخ مشرِّف، ولك جهود لإيجاد الوحدة بين المجاهدين، وإننا نريد أن نفوِّض الرئاسة إليك في قادم الأيام وفي الحكومة القادمة، وأطلب منا كل ما تحتاج إليه).

فقال حقاني: (تأملت في نفسي وقلت: بعد سنوات من الجهاد والجروح والهجرة والمشقات يريدون توريطك باختبار شديد يهدد إيمانك.

ولكن بحمد الله لم تدخل في قلبي ذَرَّة تَطَلُعْ لاقتراحهم.

فقلت لهم: هلم تم كلامكم ؟

قالوا: نعم.

ثم أمسكوا الأوراق وتهيأوا للكتابة.

فقلت لهم: أوتظنون بأني أبيع ديني وشعبي لأجل الكرسي والمنصب؟ أو أقبر آمال الشهداء ؟.. لا يمكن هذا أصلاً.

أصارحكم فاستمعوا إليَّ جيداً وأوصلوا كلامي هذا إلى أكابركم:

لا تطمعوا بغزو أفغانستان لأن هذا سيكون ثقيلا عليكم، بل اسعوا إلى حل مشاكلكم عن طريق الحوار، وإذا اعتديتم على أفغانستان فإنني سأقاتلكم بنفس البندقية التي كنت أقاتل بها الروس.

تمعرت وجوههم وتحيروا، فسكتُّ وتركت مكاني فورا وتحركت نحو الباب، ومن الباب قلت لهم: هذا قولي الفصل.

أرجوكم بأن تكونوا واقعيين.

وبعد شهر استهدفوا مركزنا في باكتيا بصواريخ كروز”.

(ملاحظة: يقصد أنس حقاني حملة قصف قاعدة جاور بصواريخ كروز في شهر أغسطس عام 1998، والتي شملت معسكرات القاعدة الموجودة على مسافة ليست بعيدة عنها. كما وشملت معسكر لجماعة باكستانية. وادَّعَت أمريكا أن القصف الصاروخي جاء ردا على عملية القاعدة ضد سفارتيها في أفريقيا. والحقيقة أن الهدف كان اغتيال “بن لادن” و”جلال الدين حقاني” وكبار قيادات القاعدة في ضربة واحدة).

 

أمريكا تقصف قاعدة (جاور) ومعسكرات القاعدة (20 أغسطس 1998م)

أمريكا كانت تنتظر حقاني بصواريخ “كروز” في حفل عقد قران في جاور.

يصعب أحياناً وضع حد فاصل بين المصادفة والترتيب المتعمد. لأنه في اليوم الذي تساقطت فيه الصواريخ الأمريكية على معسكرات بن لادن في خوست، وكان يوم خميس، كان مقرراً -حتى قبل وقوع تفجيرات أفريقيا- أن يجري فيه عقد قران أحد الشباب العرب، وأن يكون العقد في قاعدة جاور، ثم ينتقل المدعوون إلى معسكر “جهاد وال” لاستكمال الحفل. وكان من المفترض أن يكون على رأس المدعوين أسامة بن لادن وكبار مساعديه، وقيادات الجماعة المصرية التي ينتمي إليها العريس. ومن الطبيعي أن يتواجد في الحفل وعقد القران كبار الجماعة الباكستانية التي تشغل معسكر التدريب “سلمان الفارسي” القريب من جاور. وكانت الجماعة التي ينتمي إليها المجاهدون الباكستانيون قد وضعت اسمها واسم قائدها في بيان توحيد عدة جماعات لمواجهة أمريكا. وهو البيان الشكلي الذي أصدرته “القاعدة” من قندهار (لرفع معنويات الأمة الإسلامية) حسب قول قائد كبير في تنظيم القاعدة.

نتيجة لظروف الأطراف الرئيسية في ترتيبات ذلك الحفل، جرى التراخي في تنفيذه بدون الإعلان عن إلغائه بالكامل؛ لهذا ظل ترتيب القصف الصاروخي على حاله، وفي نفس التوقيت، أي في يوم الخميس 20 أغسطس 1998.

كان لدى “أسامة بن لادن” برنامج مطول في معسكر “جهاد وال” وباقي المعسكرات الأصغر منه في نفس المنطقة. وكان قد جهز لزوجاته غرفاً للمعيشة في مغارات قريبة من معسكر “جهاد وال”. وكان ينوي البقاء في تلك المنطقة عدة أشهر يباشر فيها برامج لتنشيط المعسكرات واستيعاب شباب جدد من اليمن والجزيرة.

في ليلة القصف الصاروخي نالت الغرف الأربعة، صاروخاً لكل غرفة. وكذلك جميع غرف المعسكرات الأخرى، وحتى المساجد ودورات المياه. كان الكرم الأمريكي وافراً كما هي العادة.

ولكن هل كانت الضربة الصاروخية مقررة سلفاً سواء حدثت تفجيرات أفريقيا أم لم تحدث؟ هذا الاحتمال أرى أنه الأكثر ترجيحاً، لأن حرب السابع من أكتوبر 2001م على أفغانستان كانت متوقعة (ولسبب مختلف تماماً) في نفس التوقيت ونفس السيناريو إجمالاً، حتى قبل أن تحدث تفجيرات واشنطن ونيويورك في الحادي عشر من سبتمبر 2001.

الذي يقوي احتمال أن الضربة الأمريكية للمعسكرات في أغسطس 1998م كانت مقررة سلفاً؛ أنها شملت قاعدة جاور التابعة لجلال الدين حقاني، الذي لا شأن له من بعيد أو قريب بضربة أفريقيا أو نشاطات بن لادن إجمالاً. والأرجح أن الضربة الصاروخية طالت أهداف تابعة لمولوي حقاني نتيجة لرفضه التعاون مع الأمريكيين في برنامجهم ضد أفغانستان، رغم ما قدموا له من إغراءات، حسب ما جاء في رواية نجله “أنس حقاني”.

ولنفس السبب لاحق الأمريكيون حقاني حتى تمكنوا من إصابته بالطائرات أثناء صلاة التراويح في رمضان 1422. وهي الضربة التي أدت إلى استشهاده في نهاية المطاف.

وكان معروفاً أن مولوي حقاني كان مقرراً حضوره حفل القرآن المفترض، بل ويكون هو راعي الحفل، وأن يعقد القران بنفسه غالبا. خاصة وأن العروس هي ابنة صديقه كاتب هذه السطور. وأن شقيقتها سبق وأن عقدت قرانها في قاعدة جاور، عام 1991.

 

حقاني..قصة الرحيل الأخير

تعرض حقاني خلال مسيرته الجهادية للعديد من محاولات الاغتيال. ولم ينشر شيء عن تلك المحاولات من جانب حقاني وجماعته أو من جانب من خططوا لتلك العمليات.

ومن حديث أنس جلال الدين حقاني يتضح أن قصف جاور بصواريخ كروز ومعها معسكرات القاعدة في “جهاد وال” كان محاولة أخرى لاغتيال جلال الدين حقاني.

أما المحاولة الأخيرة التي كانت سبباً لاستشهاده بعدها بفترة؛ فكانت أثناء أحداث الشهر الثاني من الحرب (نوفمبر 2001). وكان مولوي جلال الدين حقاني وقتها في مدينة خوست في شهر رمضان، يؤدي صلاة التراويح بعد العشاء. فداهمتهم القاذفات الأمريكية وقصفت المسجد وأحدثت فيه دماراً كبيراً.

قتل في الغارة عدد من المصلين، من بينهم بعض رجال حقاني، ومتطوعين من بينهم عرب. وأخرجوا حقاني من تحت الأنقاض وكان مصاباً وينزف وفي حاجة إلى تدخل طبي عاجل. فأخذوه إلى بيته في مدينة ميرانشاه الحدودية في باكستان. ولم يكن فيها طبيب أو علاج مناسب. ولم يكن ممكنا أيضا أخذه إلى داخل باكستان لأن الحكومة الباكستانية أعلنت أن حقاني مطلوب للاعتقال بأمر من الولايات المتحدة الأمريكية.

قال أحد المجاهدين العرب الذين نجوا من الحادث أن القنابل التي سقطت على المسجد لم تكن فقط شديدة الإنفجار بل كانت أيضا ملوثة بالجراثيم. وظهر ذلك على العديد من المصابين. وهو يعتقد أن ذلك التلوث الجرثومي هو الذي أدى إلى استشهاد مولوي حقاني.

 

 الجيش الباكستاني يحاصر حقاني في بيته، وحقاني يقاوم الاعتقال

وذات يوم جاءت القوات الباكستانية وحاصرت منزل مولوي حقاني للقبض عليه وتسليم نفسه.

رفض مولوي حقاني الاستسلام للقوات الباكستانية. وحَمَلَ أسلحته الشخصية، وهي عبارة عن كلاشنكوف ومسدس روسي. وقال: (لن أستسلم لهم، سأخرج وأقاتل إلى أن أقتل هنا).

طبيعي أن يهرع قادة القبائل في المنطقة ليتدخلوا في هذا الأمر الخطير حتى يمر بسلام.

مولوي نظام الدين النائب الأول لمولوي حقاني، ومعه سراج الدين حقاني نجل الشيخ جلال الدين، تكلما معه، وقالا: (دعنا نتفاوض معهم ونكسب وقتا، حتى تتسلل من خلال البيوت، وتمضي بعيداً عن الحصار، ثم تنطلق إلى أفغانستان).

قادة القبائل بدورهم فاوضوا ضباط الجيش الذين يحاصرون منزل حقاني. وطلبوا منهم عدم القبض عليه، وتركه يرحل إلى أفغانستان.

في النهاية تمكن حقاني بمجهودات رجاله وأقاربه وقادة القبائل على جانبي الحدود من اختراق حصار الجيش الباكستاني والدخول إلى أفغانستان، والوصول إلى منطقته (زدران) حيث اختفى هناك.

زادت أمراض مولوي حقاني وضعف جسمه، وزادت عليه وطأة أمراض الشيخوخة.

وقال نجله أنس في مقالته لمجلة للصمود أن والده أصيب في أواخر أيامه بالشلل في يده، فكان الأصدقاء يشغلون له تلاوة القرآن من آلة التسجيل.

رغم اشتداد المرض وتدهور حالته الصحية لم يكن ممكنا نقله للعلاج في باكستان أو أي دولة في الخليج لأنه سوف يعتقل هناك على الفور.

فأحضروا له طبيبا، فوجد أن عنده مياه في الرئة. وحاول الطبيب سحب تلك المياه بوسائل بدائية حيث لم يكن لديه أدوات طبية مناسبة في تلك المنطقة الجبلية المعزولة.

فأصيب مولوي حقاني بمضاعفات، وتدهورت حالته الصحية حتى مات.. رحمة الله عليه.