تعليم المرأة الأفغانية بين الضرورة الشرعية والمزاودة العبثية

د.نائل بن غازي

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد

إن الشريعة الإسلامية جاءت بمقاصد هي من جملة المعاني والحِكم والغايات الموضوعة لتحقيق مصالح العباد، وهي ملحوظة في الحِكم الشرعية الجزئية، أو المصالح الكلية، والتي تقود العباد لغاية سامية نبيلة شريفة: هي تقرير العبودية الله –تعالى- وتحقيق المصلحة المرعية للعباد.

المقاصد التي تراعي الكليات المقاصدية الخمس: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وجعلتها متكاملة مترابطة، يقدم فيها كليُّ الدين، وتُرد كل المقاصد إليه عند التعارض، إذ لا خلاف –عند التحقيق- أن الدين قيّم على كل مصلحة ومهيمن عليها، ومن قدم ضرورياً على ضروري الدين في حالة ضرورة كما في إكراه النفس على كلمة الكفر سلامة للحياة، فمرد حفظ النفس وقتها لحفظ الدين وديمومة الدعوة القائمة على النفس البشرية، فكل الكليات راجعة لكلي الدين.

وإنه مما لاشك فيه، أن حفظ العقل بالتعليم ونبذ الخرافة ومقاومة الجهل: ركن من أركان مقاصد الشريعة، وضرورة من ضروراته المقصودة، وأنها مطلوبة على جهة التعيين والتأكيد من ولاة أمور المسلمين، بما يحقق التكامل الصحيح بين العيني منه والكفائي بما يضمن استقرار الحياة.

ليبقى تحقيق هذه المقاصد متكاملاً في حياة الناس هو: وظيفة العلماء الربانيين في البيئة المقصودة، من غير اطراد حكم عام في كل بيئة، مراعاة لاختلاف البيئات، وقد دلت قواعد العلم الثابتة أن الفتوى تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعادات والأعراف.

وإن كان هذا على سبيل رفع الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه مما يعلم يقيناً أن الشريعة الغراء التي تراعي أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فهو عند تعارض الضروري من المقاصد الكلية مع كلي ّ الدين لاشك أنه أوجب بالمراعاة والفهم والإدراك الصحيح. فالشريعة يقيناً لا تقدم كلياً على كلي الدين لاسيما بما يعود عليه بإبطال أو تعطيل، فالفرع إذا عاد على الأصل بالإبطال كان باطلاً غير معتبر، إذ كل اجتهاد خرج عن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليس من الشريعة في شيء وإن أُدخل فيها بالتأويل، كيف إذا كان مستند التأويل تقديم العقل على النص، ومحاكمة الكلي إلى الوهم والاستحسان العقلي المعارض للدليل.

 

في إعلان وزارة التعليم العالي التابعة للإمارة الإسلامية –حفظها الله- قررت الوزارة تعطيل الدوام الجامعي “المؤقت” للطالبات، وعزت ذلك الإجراء “المؤقت” لحين توفر البيئة المناسبة لتعليم الطالبات بما يحفظ عليهن دينهن وحشمتهن، وتقديم المنهج المناسب الذي يراعي خصوصيات المرأة الأفغانية الخالص من شوائب وكدر الغزو الأجنبي للتعليم الأفغاني على مدى سنوات الغزو للبلاد.

وبينت الإمارة –حفظها الله- أن الإجراء “مؤقت”، وأنها تعمل على تعجيل انتظام الدراسة للطالبات وفق المحددات الشرعية التي تراعي كلي الدين، ولا تهمل ضروري حفظ العقل المتمثل بوجوب توفير بيئة التعليم الشرعية المناسبة للمرأة الأفغانية.

تلقت الوسائل الإعلامية والرقمية الإعلان، فتهارجت أقلام، وماج مداد، ونفثت حروف الشر، وتعجلت حسابات محسوبة على العمل الإسلامي وبعض المفكرين، وعاش أكثرهم حالةً من التماهي مع الرواية المنقولة من غير تثبت، أو فهم حال الإعلان على الصورة الصحيحة.

والحال أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وأن فهم واقع القرار ركن التوفيق في بناء الحكم الصحيح، وأن كثيراً من المنتقدين لم يكلف نفسه عناء السؤال عن حيثيات القرار، رغم الإعلان الصريح أنه على جهة التأقيت لا الدوام.

وأنه في ساحة العمل الإسلامي قد يعرض للاجتهاد الشرعي عامة والسياسي على جهة الخصوص ما لا يمكن الاطلاع عليه إلا دوائر ضيقة، وأن هذا الجزء الخفي الخاص هو المؤثر في آليات الترجيح بين المصالح والمفاسد، وأنه يتعين على المسلم والحالة هذه أن يغلب جانب حسن الظن في العاملين، وأن يلتمس لهم المعاذير لا أن يتخذ من اجتهاده المفتقر لتام النظر مادة تشهير وتسفيه وإسقاط ومزاودة.

فأهل مكة أدرى بشعاب التوفيق لإصابة الهدى بدليله، لاسيما والإمارة قد خرجت من بين فرث الاحتلال البغيض، ودم المتآمرين الساعين لإسقاطها وتشويه انطلاقتها، وهي التي لازالت في مرحلة الجهاد للتخلص من آثار الغزو على البلاد والذي طال كل مناحي الحياة الأفغانية، وعبث بقيمها وحضارتها، وهم في أوج معركة البناء والتطوير.

ما يجعل تناول قضية تعليم المرأة الأفغانية بعيداً عن تصور حيثيات القرار، أقرب للمزاودة العبثية، التي تمثل حلقة من حلقات محاولات الإسقاط الممنهج، طمعاً في تحقيق ما لم تحققه آلة الدمار العسكرية طيلة زمان الغزو لأفغانستان، استرضاءً للغرب، ومسارعةً في أدواته في المنطقة.

وإلا فما تعني محاولات صم الآذان عن البيان المفهم للقرار، وأخذه كاملاً من مصدره، والتباكي على المرأة الأفغانية المصونة، والتي بذلت الإمارة الإسلامية لصونها وحمايتها والدفاع عنها آلاف الشهداء والجرحى، ثم الإصغاء المهين لمكنة التضليل الغربية والتي كانت ولازالت إزاء قضايا الأمة المصيرية تكيل بمكيالين، نفاقاً بغيضاً، وإسفافاً مريضاً.

ولو كان الأمر منهجاً بريئاً، وطريقة خالصة من شوائب التمييز البغيض، لوجدنا حملات مقاربة لمناهضة الإرهاب المسكوت عنه والذي يتفاخر به العالم الظالم ويجعله في صفحات مذكراته دون وجل أو خوف، فأين اختفت هذه الأقلام؟؟ وأين غابت هذه الأصوات؟؟ في الوقت الذي يتفاخر فيه الأمير البريطاني هاري بقتله خمسة وعشرين من المدنيين الأفغان تسلية رخيصة، وهو يصفهم: حجارة شطرنج كان لابد أن يموتوا” ويجعل ذلك الإرهاب جزءاً من مذكراته المحفوظة !!

لو كان الأمر منهجاً بريئاً، وطريقة خالصة من شوائب التمييز البغيض، لوجدنا انتفاضة مماثلة –على الأقل- على الهندوس الذين حرموا المرأة المسلمة من حجابها ومنعوها من التعليم، ولاحقوها في ساحات الجامعة إرهاباً وترويعاً وهتكاُ لسترها، فالمرأة الهندية هي أخت المرأة الأفغانية !!!

لو كان الأمر منهجاً بريئاً، وطريقة خالصة من شوائب التمييز البغيض، لوجدنا ثورة على لصوص مقدرات الشعب الأفغاني والتي يتم التحفظ عليها في أكبر وأوضح عملية سرقة عرفها الكون في زماننا، وهو المانع الأساس من تهيئة البيئة المناسبة للمرأة الأفغانية لتعليم يحفظ عليها دينها وسترها وعفتها !!

ولو كان الغرب حريصاً على تعليم المرأة الأفغانية، ويحارب محاولات منعها من التعليم –رغم عدم وجودها- ويرى ذلك جزءاً من إنسانيته المغشوشة، فهل يكفل الغرب حرية الشعب الأفغاني في امتلاكه منظومة علمية تصل به لإتمام مشروع نووي ولو في المجال السلمي؟؟ قطعاً لا يكفل، ولن يكفل، ولو فعلت الإمارة ذلك لكان برنامجها هدفاً لمعركة أشد ضراوة، لن يتوانى فيها الغرب أن يقتل ملايين الطالبات الأفغانيات فقراً أو قهراً أو قصفاً للحيلولة دون المشروع النووي السلمي.

لكنها المزاودة العبثية، والإرهاب الممنهج، والتشويه المدروس، والإسقاط الوضيع..

لئن كان الغرب لا يلام في عدوانه، فغاية اللوم على المسلم الذي غابت عنه مسلّمات صحيح النظر، ثم جعل نفسه ترساً في عجلة الإسقاط.

غاية ما في إثارة قضية تعليم المرأة الأفغانية: هو سعي الغزاة وبيادقهم في جعل أدوات الغزو حية حاضرة عبر المناهج الموضوعة، والثقافة المفروضة، والأعراف المختلقة الغريبة، والذي يسعى من خلالها الغرب لاستنساخ النموذج النسوي الساقط وتطبيقه في أرض الإمارة الإسلامية –حفظها الله- وجعلها بوابة الاحتلال الناعم، ومادة تغييب الجيل المسلم.

لازالت الإمارة الإسلامية –حفظها الله- تؤكد على المؤكد الثابت: أن تعليم المرأة المسلمة جزء من مشروع البناء الكبير في أفغانستان، وأنها جزء فاعل عامل مهم في المجتمع الأفغاني، وأنها تسعى جاهدة دون توانٍ في توفير البيئة الشرعية المناسبة التي تضمن فيها للمرأة الأفغانية تعليماً ضرورياً لا يعارض كليات الدين، أو يعود عليها إبطالاً أو نقصاً، فالقضية محسومة لا مجال فيها لمزاودة عبثية، أو استدراك لا محل له.