الإمارة الإسلامية تعلق تعليم النّساء مؤقتا

محمد إلهامي

 

أعسر الكلام كلامٌ يضطر المرء معه لبيان موقفه بعد أن أسيئ فهمُه!.. فهذه السطور من هذا النوع، فالله المستعان!

 

جاء الخبر بأن طالبان منعت مؤقتا تعليم النساء! فهاج الناس في كل واد، وتهاطلت بيانات المؤسسات الرسمية والدينية تدين ما حصل!

أقسم بالله غير حانث أن ثلاثة أرباع -إن لم يكن تسعة أعشار- هذه الإدانات مغرضة، وأنها وجدت فرصة لتنهش في طالبان، فلم تفعله حبا في المرأة ولا دفاعا عنها، بل بغضا في طالبان!

دليل ذلك أن أفغانستان تعيش منذ التحرر حصارا وهموما ومجاعات وسوء تغذية وقلة أدوية، بل أصابها زلزال مهلك، ثم انتعش فيها الدواعش -بدعم الدول المحيطة وغير المحيطة- وما كلَّف أحد هؤلاء نفسه أن يتعاطف!

وإذا بالبيانات والتغريدات الساخطة تجتمع على معنى واحد: أن حرمان المرأة من التعليم ليس من الإسلام، وهو عمل يشوه صورة الإسلام!

وهذا يقذف في روع القارئ أن طالبان أصدرت فتوى شرعية بحرمة تعليم النساء.. لا أنه كان قرارا بإيقاف مؤقت لهذا التعليم حتى يتسنى الظرف المناسب.

سألت بعض الأصدقاء والمتابعين من الأفغان ومن غيرهم -وفيهم معارضون لطالبان- عن خلفية هذا القرار وأسبابه، وجاءتني ردود عدة، لا أستطيع الآن أن أفصل أيها هو الصحيح.

فقائل يقول: قلة الموارد والظرف الاقتصادي، وقائل يقول: مشكلة الخوف والظرف الأمني، وقائل يقول: مشكلة في المناهج الموروثة منذ زمن الاحتلال، وقائل يقول: مشكلة في الالتزام بالخط الشرعي، وهو فرع عن الميراث من زمن الاحتلال الأمريكي (ونعرف بطبيعة الحال أن الأمريكان لم يكونوا يقصّرون في سعيهم لصياغة الجيل الموافق لهواهم وأفكارهم.. ونحن العرب أبناء تجارب الاحتلال، ولا زلنا نعاني حتى اللحظة من الأفكار التي انتشرت في مجتمعاتنا بفعل التعليم الأجنبي، حتى نشأ فينا من هو أخلص للغرب من بعض الغربيين أنفسهم.. فالخطر لا هو بعيد ولا هو مظنون).

 

ثم إن طالبان في ظرف استثنائي، بعد تجربة احتلال، ومثل هذا الظرف الاستثنائي إذا مرّ بأمة من الأمم، فإنه يحصل فيها من الموازنات والاضطرارات ما هو خلاف الطبيعة، والغرب نفسه حين كان يمر ببعض هذه الظروف في الحروب أو في غيره، كان يأخذ المرأة إلى المصنع فتعمل بنصف أجر الرجل إذا افتقد اليد العاملة، أو كان يعيدها إلى البيت لئلا تعمل إذا قدّر أن عملها يثير مشكلات اجتماعية أو أخلاقية.. وحديث هذا يطول، يعرفه من يفتش في أخبار المجتمعات في أزمنة الحروب والثورات.

ومن الجدير باستصحابه في حالة طالبان على وجه الخصوص أمران:

■ الأول: أنهم قوم صادقون ولا يهتمون بالمناورة، وإذا رفضوا شيئا رفضوه بغير اعتبار (كما صرحوا بوضوح برفض الديمقراطية مع أنها بالنسبة لمثقفي عصرنا كالدين أو هي فوق الدين.. وكما صرحوا باستئثارهم بالحكم لأنهم من قاوموا الاحتلال مع أن أغنية التوافق الوطني هي الترتيل المقدس لعصرنا هذا أيضا)..

 

فالقوم حين يتحدثون عن أمر يرونه غير شرعي يقولون هذا صراحة، فلا يُفهم من قرارهم هذا ما يُفهم عادة من قرارات الحكومات والرؤساء، أن له باطن وظاهر، وله أغراض خفية تختبئ وراء السطور.. بل يفهم منه أنهم يقولون قناعتهم.

 

■ والثاني: أن لهم تجربة سابقة في الحكم، وقد جاوزوا في الحكم عاما.. وفي كلا الحقبتيْن لم يتعاملوا مع مسألة تعليم البنات على أنها مخالفة شرعية تستوجب التصدي لها.. وأن هذه التهمة على وجه التحديد كم وُجِّهت لهم، وأجابوا عنها قديما وحديثا.. فالزعم بأنهم يحرمون تعليم الفتيات دعوى ينقضها الواقع العملي.

 

فما موقفك أنت من تعليم المرأة؟

جاءني هذا السؤال السخيف، كأن موضوع تعليم المرأة هو محل جدل بين المسلمين أو بين الإسلاميين.. ولأننا في زمن أحمد موسى وتوفيق عكاشة، فيجب أحيانا أن تتعامل مع الغباء وكأنه منطق!

والجواب مباشرة: تعليم المرأة إن لم يكن واجبا شرعيا، فهو ضرورة في واقعنا المعاصر.

 

ولم يكن النقاش دائرا بين الإسلاميين حول فكرة التعليم نفسها، بل حول غايتها وأهدافها من جهة، وحول ضوابطها من جهة أخرى.. وهذا هو الطبيعي البديهي، فإن الإنسان لا يتعلم لمجرد التعليم، بل يتعلم ليحقق بهذا العلم غايات مقصودة.. لهذا كان التعليم في أي مجتمع جزءا من ثقافة المجتمع ووعيه ونظامه الاجتماعي.

ولا يختلف الإسلاميون مثلا في ضرورة وجود الطبيبة والمعلمة، ولكن يختلفون في ضرورة وجود المهندسة والمذيعة والموظفة الإدارية.. فثمة أعمال لا غنى فيها عن المرأة، وثمة أعمال لا ضرورة أن تعمل فيها المرأة، وبالتأكيد فثمة أعمال يحرم أن تمارسها المرأة.. فالتعليم في كل مجتمع جزء منه ومن نظامه.

 

لعل السائلين قد ارتاحوا الآن، مع أني مؤمن أنهم لم يحدث!

لكن تعالوا نفترض أن طالبان قد أصدرت فتوى شرعية بأن علماءها يرون حرمة تعليم المرأة.. وهنا أحاول أن أدفع التفكير إلى أقصى حد، جدلا.. فكان ماذا؟!

لن يحذف هذا نضالهم وكفاحهم وصلابتهم التي تستحق كل إعجاب، وكل ما في الأمر أن سيكون هذا الجانب جزء من أخطائهم وتشددهم، لن نتوانى عن بذل النصح فيه، ولكن في كل الأحوال: لن يحذف تشددهم في جانب فضائلهم في جانب آخر. ولن يمسح هذا ما لهم علينا من حق الأخوة والمناصرة، ولن يخرجهم هذا من زمرة الذين يثيرون الإعجاب لدى كل مهتم بتحرر الشعوب من الاحتلال.

ونحن نكون أحمق الأمم، بل نكون أسوأ الإخوة، إن كان الذنب الواحد أو الخطيئة الواحدة تنقلنا من المحبة والمناصرة إلى العدواة والمفاصلة مع شعب مسلم!

 

مع أن بعض الذين أدانوا طالبان من المثقفين الذين يقرؤون ويستضيفون ويناقشون جماعة من مفكري ما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية، مثل إدوارد سعيد ووائل حلاق وطلال أسد وجوزيف مسعد، ويشنفون آذاننا دائما بأسماء فوكو وتشومسكي… إلخ!

مع أنهم كذلك، إلا أن معالجتهم لهذا الموقف تحديدا بدا فيه وكأنهم دولتيون سلطويون يحصرون معنى التعليم في المدرسة الحكومية النظامية، مع أن حالة أفغانستان لا يمكن الحديث عنها باعتبارها دولة حديثة، بل صرّح عدد من المسؤولين الأمريكان بإخفاق عملية زرع الحكومة المركزية هناك..

لكن القصد الآن: إذا كنا نحتفي بالأفكار والمفكرين الذين يحذرون من توغل الدولة وهيمنتها، ويحذرون من أن المدرسة ليست مجرد وسيلة تعليم بل هي وسيلة تنميط وقولبة وهي أداة الدولة في إنتاج العبيد والموظفين المتشربين للقيم السلطوية.. إذا كان ذلك كذلك، فيفترض بقومنا هؤلاء أن يكونوا سعداء بانكماش قبضة أي سلطة عن أي منظومة اجتماعية، رغبة من السلطة أو عجزا.. فإن هذا هو الأولى بالذي يفكر في تحرير المجتمعات.

فإذا كان صاحبنا هذا معاديا لطالبان ويراها حركة متشددة، فالأولى به أن يطرب لمثل هذا القرار، بل أن يتشوف إلى لحظة لا يكون فيها ثمة تعليم ولا مدارس خاضعة لنظامهم أصلا، كي لا تُخَرِّج لنا -وفق منظورهم- أجيالا جديدة من الطالبانيين!

فيا لله! كيف ينفصل التنظير عن الواقع في لحظة واحدة؟!

 

إن المدارس اختراع حديث، أقصد المدارس التي تنظمها الدولة وتشرف عليها وتضع لها المناهج وتدير دولابها.. والناس قبل هذه المدارس كانوا يتعلمون، يتعلمون بأشكال متعددة، في مدارس أهلية أو في مدارس فنية عملية، أو يتعلم الواحد منهم ما هو ضروري لعمله وصنعته على شيوخ المهنة!

ولم يكف الناس عن التعلم حين لم توجد المدارس.. ونحن أبناء الثورات، ونعرف ونرى ونبصر كيف استطاعت شعوبنا أن تتعلم خارج المدارس حين اضطرتهم ظروف الثورات والتهجير والنكبات إلى هذا.. من أول المبادرات التي صنعت مدارس تحت الأنقاض المهدومة، وحتى المبادرات التي أبدعت في إنتاج المنصات والتطبيقات الإلكترونية.. وخرج من هذا وذاك من الكوادر والعقول ما ينافس -ويتفوق- على خريجي المدارس النظامية الرسمية.

فأن تلغي دولةٌ ما تعليم الفتيات، فلن يكون هذا هو نهاية العالم.