أفغانستان ضحية الصراع الإقليمي

‏د ـ أحمد موفق زيدان

شكل الإخلاء السعودي لسفارتهم في كابول مفاجأة لكثير من المراقبين السياسيين والعسكريين للحالة الأفغانية، لاسيما وقد عهدنا صبر السعودية وبقاءها في أفغانستان في الحالات الصعبة والحرجة، وهي التي استثمرت طويلاً في أفغانستان، لكن أن يتم الإخلاء بحجة تهديدات من تنظيم الدولة “داعش” فهذا شيء غريب وغير مفهوم، في حين الكل يعلم أن المستهدف الأول اليوم لتنظيم الدولة هو نظام الإمارة الإسلامية الأفغانية وقادتها، وكوادرها وليس الآخرين، وقد يكونون مستقبلاً، لكن ليس راهناً، وقد تجلى ذلك في استهداف التنظيم لمقرات وكوادر الحركة منذ رحيل القوات الأجنبية عن أفغانستان ووصول الحركة إلى الحكم في كابول، إذ لم تُسجل أية حالة استهداف للأجانب في أفغانستان، واقتصر الاستهداف على كل ما يرمز للإمارة الإسلامية من أجل إسقاط المشروع، والقضاء على التجربة الوليدة.

‏ذهب البعض فوراً إلى التلميح بوجود خطط وأيادٍ إيرانية تهدف إلى إبعاد السعودية عن أفغانستان، مما سيُهيء الفرصة الذهبية لإيران أن تستفرد في أفغانستان، تماماً كما فعلت في العراق وسوريا، فإبعاد الآخرين عن الفعل، وقعودهم بعيداً عنه سيمكن إيران ونفوذها وأذرعها من التمكن والتثبيت في أفغانستان وغيرها، تماماً كما فعلت من قبل في العراق وسوريا واليمن ولبنان وغيرها، والغريب أنه حتى لا يوجد تفسير علني واضح لهذا الإخلاء سوى التلميح بوجود تهديدات لداعش، وهو بالمجمل تفسير غير مقبول في ظل الأوضاع التي عاشتها وتعيشها أفغانستان.

‏للأسف كمراقب للحالة الأفغانية رأينا اللعبة الإقليمية تحتدم في أفغانستان مع انسحاب القوى الكبرى منها، وهو ما جرى يوم رحلت القوات السوفياتية من أفغانستان في 15 فبراير/ شباط 1989، حين احتدمت اللعبة الإقليمية بين باكستان وإيران والهند وآسيا الوسطى، وإن كان طرفا الصراع في الحقيقة والواقع هما باكستان وإيران، كون الطرفين لديهما أذرع وفصائل جهادية أفغانية في أفغانستان، واستطاعت إيران خلال تلك الفترة أن تعزز نفوذها بعد أن غزت أمريكا والقوى الغربية أفغانستان، بدعم الحكومة الباكستانية، وهو ما ساعد بالمقابل الهند على تعزيز نفوذها.

‏علمنا التاريخ الحديث أن التمدد الهندي مطرد مع التمدد الإيراني في أفغانستان، وتمددهما هذا، عبارة عن علاقة عكسية مع التمدد الباكستاني، فالمصالح الهندية-الإيرانية في أفغانستان متقارب ومتشابه، ولعل أكثر ما يتشابه فيه هو اتفاقهما على تحجيم النفوذ الباكستاني في أفغانستان، ومن ورائه السعودية والدول الخليجية وقصر علاقة الأخيرة معهما بالإضافة إلى جمهوريات وسط آسيا المتناغمة مع إيران باللغة والعرق، وهذا الحرص على التحجيم له علاقة بالنفوذ السياسي والثقافي وكذلك الاقتصادي،المتمثل في الحرب الصامتة على الموانئ، حيث أن إيران ومعها الهند تودان الاستثمار في ميناء بندر عباس على حساب ميناء دبي وميناء غوادر في باكستان، وكله للوصول إلى درة أسواق المنطقة وهي أسواق وسط آسيا ومن ورائها.

‏على هذه الخلفية ينبغي قراءة التحوّل السعودي الأخير في أفغانستان، ولا بد من قراءة عميقة كذلك لارتباطه بالأوضاع الجيوسياسية، والمصالح المنطوقية، لاسيما وأن أكبر جارين لإيران وهما أفغانستان والعراق كانا على مدى التاريخ أكثر ما يهدد إيران، ولذا فإن قدرة الأخيرة على تحجيمهما وتقليص علاقاتهما وقصرها على العلاقة معها فقط دون غيرها نصر كبير لإيران، إن لم يكن نصر بلا حرب ولا كلف ولا تعب ولا نصب، وهو نصر على أفغانستان أولاً وعلى السعودية والدول العربية ثانياً، وكذلك نصر على باكستان.

‏باعتقادي أن أي توتير للعلاقة الأفغانية مع باكستان والعالم العربي في هذه الظروف ستخدم إيران والهند، وستدفع الدول الغربية ثمناً باهظاً له، وقد رأينا الأثمان الذي دفعها الخليج والسعودية تحديداً يوم تخلوا عن الإمارة الأفغانية في نسختها الأولى عام 2001، وتداعيات ذلك على المنطقة والعالم، واليوم على ما يبدو سنكرر نفس التجربة، وسنُفسح المجال للعب الإيراني وحيداً في الساحة الأفغانية مما سيدفع ثمنه الأفغان أنفسهم، وسيمنح إيران بالمقابل مساحة أكبر للعب، ممتدة من العراق وسوريا ولبنان إلى اليمن وأفغانستان، ولعل الساحة المقبلة ستكون ساحة باكستان، لينتقل اللعب من حرب باردة إلى حرب أشد سخونة فيها.

‏مثل هذا الواقع المرير لا يمكن أن يحسمه إلاّ بتحرك باكستاني أولاً، كون باكستان على خط النار الأول وعلى خط الجبهة الأولى، وهي الأقدر على فهم الحالة الأفغانية والتأثير فيها، والأقدر على مجابهة إيران ديبلوماسياً وعملياً نظراً لتراكم الخبرات الباكستانية في ذلك، بالإضافة إلى قدرة باكستان على التأثير في القرار السعودي والعربي فيما يتعلق بجارتها أفغانستان، إذ إنها المتضرر الأول والأخير، وهذا الأمر بحاجة إلى سمو على الجراح وتعالي على المشاكل الصغيرة والكبيرة أملاً بالوصول إلى ما هو أكبر، وهو مصلحة أفغانستان ومن وراءها.