نعمة الأمان في أفغانستان

د. محمد الصغير

الأمين العام للهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام

 

من أعظم ما امتن الله به على أهل مكة نعمة الأمن، ﴿لِإِیلَـٰفِ قُرَیۡشٍ ۝١ إِۦلَـٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَاۤءِ وَٱلصَّیۡفِ ۝٢ فَلۡیَعۡبُدُوا۟ رَبَّ هَـٰذَا ٱلۡبَیۡتِ ۝٣ ٱلَّذِیۤ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعࣲ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۭ ۝٤﴾ [قريش].

وأعلى درجات الأمان، الأمن من تسلط الأعداء: ﴿أَوَلَمۡ یَرَوۡا۟ أَنَّا جَعَلۡنَا حَرَمًا ءَامِنࣰا وَیُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنۡ حَوۡلِهِمۡۚ أَفَبِٱلۡبَـٰطِلِ یُؤۡمِنُونَ وَبِنِعۡمَةِ ٱللَّهِ یَكۡفُرُونَ﴾ [العنكبوت: 67].

وقانون النِّعم.. أنه لا يعرفها إلا مَن فقدها وكابد مشقة غيابها، وكل من رام العيش الكريم في ظل أنظمة العسف والخسف، وحكومات الفساد والاستبداد يعرف ذلك ويدركه، حيث كانت أعيننا لا يداعبها الكرى إلا مع شروق الشمس، التي تعلن أشعتها انتهاء وقت زوار الفجر.

تلك الجحافل التي تقتحم بيوت الوادعين، وتنشر الرعب في مساكن المظلومين، وكانت هذه المشاعر لا تفارقني إلا أيام السفر إلى بلاد أُخر، لاسيما التي تمنع الدخول على الإنسان دون تصريح واستئذان، ثم عشت شعور الأمن من قيود السجان مرة واحدة في بلدي، ومن عجائب الأقدار أنها بدأت في مثل هذا اليوم الذي أسطر فيه حروفي، أي في 25 يناير 2011م.

واستمرت هذه النعمة عامين، وكنت أدرك عظمتها لطول مدة فقدها، وكان مما أردده أنني أستطيع النوم ليلاً، دون أن أستيقظ على سحنة القرصان، أو أفتح عيني على قيودي في يد السجان، ولكن لم يدُم الحلم طويلاً، وانتهى بكابوس أنكى وأشد.

ولم أشعر بالأمن الكامل والأمان الشامل مرة أخرى، طيلة التسع سنوات المنصرمة، إلا عندما وطأت قدماي أرض مطار كابُل، واستقبلني رجال الإمارة الإسلامية من أبناء الشهداء وأحفاد المجاهدين، الذين أبدوا حفاوة بالغة، تخطت مرحلة الإكرام إلى الإجلال، ومع كونها في قمة الاحتفاء الرسمي إلا أنها تحت ظلال من التواضع والمحبة، والتقدير والمودة.

ولأول مرة أرى رجال الدولة وأعمدة الحكم، هم أئمة الفقه وقادة الساحات والميادين، ممن جمعوا بين العلم والعمل، ثم إنهم يرون في الوافد العربي -لاسيما إن كان من العلماء- صورة أجداده الأوائل وأسلافه الأمجاد من الصحابة والتابعين، الذين حملوا إليهم مشاعل الهداية والدين القويم.

والحقيقة أننا نحن من رأى فيهم وفي سيرتهم ومسيرتهم ما قرأناه عن سلفنا الصالح، من آيات العزة والإباء، وكيف أنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم، إن ما رأيناه من أخلاق جنود الإمارة الإسلامية وقادتها من تواضع بلا تكلف، وحياء بلا تصنع، هو أصدق مثال على حال الشيخ والمريد.

على ذكر الشيوخ والأئمة فإننا وجدنا لنا ميراثاً وافياً، وذخراً وافراً من سيرة شيوخنا الكرام عليهم سحائب الرضوان، الذين جاهدوا معهم في كل حالاتهم خلال الأربعين سنة الماضية، فكثيرا ما تُطعم كلمات علمائهم بمقولات الإمام المجاهد الشيخ عبدالله عزام، وإذا ذكروا الصلابة في الحق قالوا لقد تعلمنا ذلك من جلد الشيخ المجاهد د. عمر عبدالرحمن، ويذكرون مواقف له تَقدمهم فيها، وفي معركة التفاوض التي لا تقل عن ميدان النزال، لا ينسون مواقف شيخنا الإمام د. يوسف القرضاوي وجملته الشهيرة “أنا منكم وأنتم مني”.

إن نجاح المجاهدين الأفغان في تحرير بلادهم من احتلال دام عشرين سنة تقوده القوة العظمى في العالم، في أطول حرب خاضتها ومعها 40 دولة من حلفائها، بأكبر تكلفة حربية في التاريخ، ثم توحيد أفغانستان تحت حكومة مركزية واحدة، لأول مرة منذ ثلاث وأربعين سنة -لأمر يحتاج إلى دراسة وبحث، لأخذ الدروس والعبر، لكل من يحمل مشروع تحرر وطني، أو يسعى للانعتاق من رق النظام العالمي، وسماسرته ووكلائه.